الخروج من الذات لملاقاة الآخر! الحلقة (4)
رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ:
الحرَكة الشَّعبية، والبَحْثِ عن السَّلام ووحَدَّة البلاد
10 فبراير 2021
الواثق كمير
[email protected]
اللقاء الأول: منصور وقرنق في نفس الظهيرة!
في 17 أغسطس 1986، عقد تحالف “التجمع الوطني لإنقاذ الوطن”، المُكوَّن من “التجمع النقابي”، من جهة، والحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، من جهةٍ أخرى، اجتماعاً مجدولاً، في أديس أبابا، بغرض متابعة عمليَّة تنفيذ مقرَّرات “كوكا دام” التي صدرت في مارس من نفس العام. كنتُ مشاركاً في ذلك الاجتماع، ومعي زميلي الصديق عابدين محمد زين العابدين، كمُمثلين للهيئة النقابيَّة لأساتذة جامعة الخُرطوم. تمَّ تنظيم اللقاء في قاعة فخيمة، بفندق الـ“غيون”، بحيث يجلس المُجتمعون على طاولتين متقابلتين، واحدة لوفد التجمُّع والأخرى لوفد الحركة الشعبيَّة. كنتُ جالساً، وبجانبي د. عابدين، وقبل أن يكتمل النصاب ويبدأ الاجتماع، إذا بي أشاهد من قُرب د. منصور خالد، لأوَّل مرَّة، وهو يحتلَّ موقعه في الجانب المُقابل لنا. وبعد انتهاء الجلسة مباشرة فوجئتُ بمنصور وهُو يُقدِم عليَّ في مكان جُلوسي ليذكُرني بالاسم ويُحيِّيني بحرارة، ثم ليقول لي: «أطلعتُ على دراستك حول الفساد في السُّودان وأعجبتُ بها وأنا أهنئك على هذا العمل». كنت قد قُمتُ وزميلي الصديق د. إبراهيم كرسني بإجراء دراسة بحثيَّة عن الفساد في أخريات حُكم نظام النميري، ونشره المعهد الاسكندنافي للدراسات الأفريقيَّة، أوبسالا، في تقرير بحثي، رقم 72، في 1985. وبعد أن عرَّفتُ عابدين عليه، دعانا منصور إلى الغداء على أن نذهب إلى المطعم الهندي “سنجام”، الشهير حينئذٍ في أديس أبابا، وبالفعل تناولنا وجبة شهيَّة كما استمتعنا بلقاء منصور، وكان لقاءً أولاً معه تبعتهُ لقاءات لم تنقطع لأربعة وثلاثين سنة قادمة.
يبدو أنَّ مفاجآت ظهيرة ذلك اليوم من أغسطس لم تقف على اللقاء بمنصور، فعند عودتنا من المطعم ونحن على بُعد أمتار من المدخل الرئيس للفندق، لمحتُ عربة سماوية اللون من موديل قديم للمازدا، ويجلس فيهل شخصٌ على المقعد الأمامي يضع قبعة على رأسه. وما أن اقتربنا أكثر حتى اكتشفنا أن هذا الشخص هو د. جون قرنق بشحمه ولحمه، فأقدَمَ منصور عليه وعرَّفنا به، فتبادلنا معه السَّلام والتحايا. ومع الاستئذان بالانصراف، سأله منصور: «أنت يا شيرمان ما حتشارك معانا الاجتماع ده؟»، فردَّ عليه جون قرنق، تكسو وجهه ابتسامة عريضة: «الغوريلا لا يحضرون الاجتماعات!»، فضحكنا وانصرفنا نحو مدخل الفندق لمُواصلة اجتماع المُتابعة. حقاً، لقد ظلت تلك الظهيرة يوماً مشهوداً ومحطةً مفصليَّةً في حياتي، انتقلتُ عبرها من النشاط النقابي إلى عالم السياسة، وكما نقول: «من ديك وعيييك…»!
بعد ذلك اللقاء، تحدثتُ مع منصورة على أهميَّة خلق نوع من التواصُل بين الحركة الشعبيَّة ومجموعة من النقابيين وأساتذة الجامعة للتعرُّف على أطروحة الحركة السياسيَّة ولتبادُل الأفكار بما يدفع بالتغيير. أثناء تواجُدنا في أديس، التقيتُ بدكتور لام أكول، الذي كان قد انضمَّ للحركة في ذلك الوقت، ولكنه لم يكُن عضواً في وفدها لاجتماع المُتابعة. اتفقتُ مع لام على أن أسعى بعد وصولي للخُرطوم إلى طرح ما توصَّلنا إليه من آراءٍ ومُقترحات على عددٍ من الأصدقاء الذين نعرف تجاوُبهم مع خطاب “السُّودان الجديد”. وعليه، كوَّنا مجموعة لهذا الغرض، وكنا نجتمع في مكتب الصديق الرَّاحل د. خضر عبدالكريم بشُعبة الآثار، التابعة لكليَّة الآداب، بشارع البرلمان. ضمَّت المجموعة، إضافة إلى شخصي، د. تيسير محمَّد أحمد، المرحوم د. أحمد عثمان سراج، المرحوم د. محمد زين شداد، د. عُشاري أحمد محمود، د. سليمان بلدو، المرحوم د. بيتر نيوت، الأستاذ جمعة عبدالقادر، وأحياناً كان يحضُر الأستاذ يُوهانس أكول.
وجدت فكرة التواصُل مع قيادات الحركة الشعبيَّة استجابةً مقدَّرة من عددٍ من هؤُلاء الأصدقاء، وبادر الصديق الرَّاحل د. بيتر نيوت كوك بالتواصُل مع قيادة الحركة الشعبيَّة وترتيب اجتماع مصغَّر يحضره زعيم الحركة نفسه. بالفعل، تمَّ هذا الاجتماع في نهاية الأسبوع الأوَّل من مارس 1987، بعد أقلَّ من ستة أشهر من لقائنا الأوَّل في أغسطس 1986. رتَّب د. بيتر اللقاء في غُرفة بفندق الـ“غيون”، بعد وصولنا إلى أديس بصُحبة د. عُشاري أحمد محمود ود. تيسير محمَّد أحمد علي، من الخُرطوم، ود. جون قرنق وكاربينو كوانين بول وأروك تون أروك ودينق ألور، من قيادة الحركة (ما زلتُ أحتفظ بالصُّور الفوتوغرافيَّة لذلك اللقاء المكتوم). اتفقنا في ذلك الاجتماع على أهميَّة استمرار التواصُل بعد عودتنا إلى الخُرطوم والتفكير في تنظيم “ورشة عمل” تُشارك فيها بعض القيادات النقابيَّة والسياسيَّة، وكنا حينئذٍ مُغرمون بمفهوم “القوى الحديثة”، مع قيادات الحركة الشعبيَّة، على أن يُعقد خارج السُّودان. وبالفعل، شَرَعنا في التمهيد لورشة العمل المُرتقبة بدءً بتحديد الأجندة والموضوعات التي تستحق كتابة أوراق بشأنها، وذلك في إطار السَّعي لتحقيق السَّلام وبحث معظم القضايا التي تشكِّل أجندة المُؤتمر القومي الدُستوري، الذي توافقت عليه القُوى النقابيَّة والسياسيَّة مع الحركة الشعبيَّة في مؤتمر “كوكا دام”. تضمَّنت هذه الأوراق موضوعات: المرحلة التاريخيَّة المُعاصرة والسَّلام وشكل الحُكم والدِّيمُقراطيَّة والاقتصاد والمُجتمع والتنوُّع الإثني والثقافي ووضع الجيش في نظام الحُكم والعلاقات الخارجيَّة. ومن ثمَّ سعينا للاتصال بالأفراد المُرشَّحين للمُشاركة لكسب تأييدهم للخُطوة، وأغلبهم من أساتذة الجامعة، ولو أنَّ هذا لم يكن بالأمر اليسير، خاصة في ظِلِّ تشكُّك بعضهم، خاصة من لهُم انتماءات سياسيَّة، وتوجُّسهم من توجُّهات الحركة وقائدها. جاءت ورشة “آمبو” تحت عنوان: “السُّودان: المشكلات واحتمالات الحُلول”، وهدفها الرئيس هو تشكيل رُؤية مشتركة وتفاهُم حول مشكلات السُّودان المحوريَّة، والاتفاق على إطارٍ عام لبرنامج عملٍ مُشترك يدعم السَّلام والعدالة والحُكم الرَّاشد. وبعد حوارٍ صريح، خرج المُشاركون برُؤية مشتركة حول القضايا مثار البحث، تمَّت صياغتها في البيان الختامي، والذي أحدث ضجَّة سياسيَّة بعد استجوابنا في المطار عند العودة من أديس، وفتح وزير الداخليَّة حينئذٍ، الأستاذ مُبارك الفاضل، بلاغاً ضدَّ المُشاركين، شطبىته النيابة لاحقاً بعد أن اكتملت التحقيقات معنا.
في كل هذا المسعى، لم يكن د. منصور خارج الصُورة، بل كان حاضراً ومتابعاً لترتيبات اللقاء، إذ كُنتُ أقدِّم له تنويراً متى ما وطأت قدماي أرض أديس أبابا. فكُنتُ أقومُ بزيارته إمَّا في الفندق الذي يُقيم فيه أو في منزل الأستاذ إبراهيم دقش، وزوجته الأستاذة بخيتة أمين، اللذان كانا يستضيفانه أحياناً ولو كانا خارج البلاد. تردَّدتُ كثيراً خلال تلك الفترة إلى أديس أبابا، حيث كنتُ أيضاً ألتقي به ود. جون، ودينق ألور، الذي كلفه جون قرنق بمهمَّة التنسيق معي. وكنتُ أُطلعهم في كُلِّ زيارة لي على ما توصَّلنا إليه من ترتيبات، وبطبيعة الأوراق المُقدَّمة ومُقدِّميها، وطلبتُ من منصور أن يُساهم بورقة حول العلاقات الخارجيَّة. واتفقنا على أن يتولى د. جون بنفسه أمر البحث عن تمويلٍ للورشة، وتغطية نفقات المُعسرين من المُشاركين فيها والقادمين من الخُرطوم. في 10 يناير 1989، وصلتُ أديس أبابا بطلب د. منصور، حيث أبلغني بمُوافقة الحكومة الإثيوبيَّة على استضافة الندوة بفُندق إثيوبيا في مدينة آمبو (المشهورة بمياهها الغازيَّة الطبيعيَّة)، وذلك في 3-7 فبراير 1989. كنا قد اتفقنا في لقاءاتنا السابقة على أن يكون عدد المُشاركين في الورشة عشرون مشاركاً من كُلِّ جانب، وعليه، أعطاني جون قرنق مبلغ 3000 دولار أمريكي لشراء تذاكر سفر بعض المُشاركين ومقابلة النفقات اللوجستيَّة. هذه المرَّة، خلافاً لأغلب اللقاءات السَّابقة التي كانت تتم في منزل دينق ألور، طلب مني د. جون أن أحضر إليه في جناحه الخاص بفندق “دي أفريك”. كان على رأس المُشاركين من الحركة الشعبيَّة في الورشة د. منصور ولام أكول ونيال دينق ومرحوم دوت كات، أمَّا الوفد القادم من الخُرطوم فضمَّ: عدلان الحردلو، محمَّد علي المحسي، يوسف إلياس، محمد محمود، محمد يوسف أحمد المصطفى، محمد الأمين التوم، محمد زين شدَّاد، كمندان جُمعة، فاطمة مرجان، علي عبدالله عباس، مروان حامد الرشيد، نصري مُرقص، عبدالرحيم شدَّاد، عبدالله آدم خاطر، والتر كونيجوك، طه إبراهيم “جربوع”، جمعة عبدالقادر، يحيى سنادة، بابكر علي بوب.
ملاحظتان يجدُر بي الإشارة لهُما هُنا فيما يخص ورشة عمل آمبو ومداولاتها. أولى الملاحظات، يبدو أنَّ أمر التمويل هذا قد اختلط لدى أستاذي الدكتور عبدالله علي إبراهيم، في مقالٍ له نُشر له تحت عنوان: “15 عاماً بعد انعقاد ندوة آمبو: الأكاديميَّة براء من آمبو”. فأفتى برواية مغلوطة، انطوت على غمزٍ ولمز، بدون تحرِّي أو استقصاء، مفادها أن مبلغ 10,000 دولار أمريكي بَعَثَ لي بها شخصٌ قادم من تونس. بالطبع، هذا كما نقول في السُّودان “كلام الطير في الباقير”، أو “خارِم بارِم”، أي غير مفهوم أو بمثابة النُطق عن الهَوَى، ولا يليق بالعُلماء. والحمد لعبدالله أنه لم يرمِ د. منصور بتُهمة الحُصُول على تمويل الورشة من وكالة المُخابرات الأمريكيَّة، وهي التهمة التي ظلَّ يلصقها بالرَّاحل المقيم. وثانيهما، تعرُّض منصور أثناء أعمال ورشة العمل إلى موقفين مُحرجين، ولكنهما لم يُثنياه عن المُشاركة والمساهمة في النقاش ومراجعة البيان الختامي للندوة. المُلاحظة الثانية، تعرَّض د. منصور إلى موقفين مُحرجين خلال أيام اجتماعات ورشة العمل، ولكنه تخطَّاهُما بطبعه الرَّزين والهُدُوء المُلازم لطبيعته. أولهُما، حالما عرض منصور ورقته حول العلاقات الخارجيَّة وأتيحت الفرص للتعقيب والنقاش، هاجمه بعُنف ممثلو الحركة الشعبيَّة في الورشة، وأغلبهم من الضُبَّاط صغار السِّن حديثي التخرُّج، وبعضُهُم درس في كوبا، بالتركيز على أنه من سَدَنَة نظام مايو، بعيداً عن مضمون الورقة المُقدَّمة. أجابَ د. منصور على كُلِّ الأسئلة التي طُرِحت وقدَّم مرافعته في الدِّفاع عن، وشرح مواقفه مع ومن نظام مايو وعلاقته بنميري. ثانيهُما، أحسَّ منصور أنَّ بعض المُشاركين في وفد الخُرطوم أيضاً يحملون على منصور بسسب مشاركته في ذلك النظام، بل ويتحاشون التحدُّث معه. أذكُرُ أنه انتحى بي جانباً في بهو الفندق وكأنه يهمس في أذني، قال لي: «يعني جبتني هنا عشان أتبهدل بكل هدؤ!»، وانتهى الأمر على ذلك.