الحرب تخطف حياة ومستقبل أطفال السودان
بواسطة : مواقع
Splmn.net
أفرزت الحرب في السودان أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم، إذ اضطر نحو خمسة ملايين طفل إلى النزوح منذ بدء القتال قبل 18 شهرا. ويتدفق عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين عبر الحدود إلى مخيمات في دولة جنوب السودان كل يوم حاملين في ذاكرتهم قصصا مؤلمة تكشف مدى قسوة تأثير الصراع عليهم.
كانت أمينة تنظر بعينين حمراوين مات التعبير فيهما وهي تتحدث همسا في حزن مسترجعة ذكرى اليوم الذي قُتل فيه ابنها البالغ من العمر 17 عاما في مدينة سنجة بجنوب شرق السودان. وكانت تحاول الفرار بأطفالها الخمسة حين اندلع إطلاق نار بالقرب من منزلها، لكن ابنها أحمد وقع في مرمى النيران.
وقالت أمينة (52 عاما) وهي تضع يدها على قلبها جالسة في مخيم كايا للاجئين في الجانب الآخر من الحدود في مقاطعة مابان بولاية أعالي النيل بدولة جنوب السودان «أطلقوا النار على صدره… لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي في منتصف الطريق». وحمل شقيقه الأكبر جثة أحمد إلى حقل، ودفنته الأسرة معا في قبر ضحل ثم واصلت المسير في رحلة استغرقت ستة أيام إلى الحدود.
وأمينة وأحمد ولاجئون آخرون في مخيم كايا، ممن سيأتي ذكرهم في هذا التقرير، أسماء مستعارة لحماية هوياتهم.
وفي وقت ينصب فيه اهتمام العالم على الصراعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تتكشف أزمة طاحنة في السودان، يتحمل فيها الأطفال وهم الفئات الأضعف في المجتمع، وطأة العنف. وحصد الموت أرواح آلاف الأطفال الآخرين مثل أحمد، أما الناجون منهم ينتظرهم مستقبل يبدو قاتما.
وتنتشر المجاعة في أجزاء من السودان ويعاني الأطفال من سوء تغذية حاد. والملايين منهم محرومون من التعليم والرعاية الصحية وكثيرون يواجهون العنف الجنسي والاستغلال والتجنيد في صفوف جماعات مسلحة. وتجد وكالات الإغاثة صعوبة في معالجة الأزمة الإنسانية في السودان بسبب نقص المساعدات الخارجية والعراقيل أمام توصيل المساعدات بسبب ضراوة القتال واستهداف موظفي الإغاثة وإمدادات الاعانات. وتحذر هذه الوكالات من أن العواقب قد تكون كارثية على الأطفال.
وقال محمد عبداللطيف المدير المؤقت لمنظمة إنقاذ الطفولة في السودان «حياة الأطفال هنا دُمرت تماما وتغيرت إلى الأبد بخسائر لا يمكن تصورها ولحق بهم ألم جسدي وعاطفي وانتهاكات واسعة النطاق لحقوقهم»، متابعا «هم جائعون وخائفون ويعيشون يوما بيوم مع آباء في كرب يشغلهم الكفاح من أجل تلبية احتياجاتهم. لم يضع جيل بعد لكن بدون مساعدة ربما يضيع فعلا».
واندلع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في أبريل/نيسان من العام الماضي، بسبب توترات حول انتقال إلى الحكم المدني بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019. ورغم محاولات الوساطة، تفاقم النزاع على السلطة وانتشر القتال من العاصمة الخرطوم إلى مناطق مثل دارفور وولايات منها سنار والقضارف والجزيرة والنيل الأزرق.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى مقتل نحو 15 ألف شخص في منطقة دارفور وحدها. ونزح أكثر من ثمانية ملايين سوداني داخل البلاد، وأصبح أكثر من مليونين آخرين لاجئين في بلدان مجاورة وخاصة تشاد ومصر ودولة جنوب السودان.
وتتهم جماعات لحقوق الإنسان منها بعثة مفوضة من الأمم المتحدة كلا الجانبين بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق منها الاغتصاب والتعذيب والاعتقال التعسفي.
وأدت الحرب إلى أزمة غذاء كارثية. وأعلنت الأمم المتحدة المجاعة في ولاية شمال دارفور في أغسطس/آب. وهذا يعني أن الناس يموتون بالفعل من الجوع والظروف المرتبطة به مثل سوء التغذية والأمراض.
ويواجه نحو 25 مليون شخص في السودان، أي أكثر من نصف السكان الجوع الحاد مع تعرض الأطفال لخطر الإصابة بسوء التغذية الحاد الشديد، وهو أكثر أشكال سوء التغذية تهديدا للحياة.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 730 ألف طفل سوداني قد يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد هذا العام، وفي جنوب السودان الذي استقبل أكثر من 810 آلاف شخص منذ اندلاع الحرب أصبحت الدلائل واضحة بالفعل.
ولطالما شاهد عمال الإغاثة في مركز استقبال اللاجئين في مقاطعة مابان بولاية أعالي النيل بدولة جنوب السودان أمهات وفدن حديثا يحملن أطفالا أضعفهم سوء التغذية بشدة.
وتأتي الحالات الخطيرة إلى مستشفى بونج وهو المرفق الصحي الوحيد في المنطقة، لكن الأطفال يظلون في حلقة الجوع المفرغة حتى بعد تلقيهم العلاج.
وفي جناح الأطفال المتواضع المضاء بأشعة الشمس في المستشفى المتداعي، كانت حواء تهدهد برفق حفيدتها منى البالغة من العمر 11 شهرا.
وقالت حواء (42 عاما) وهي ترفع الغطاء لتكشف عن طفلة بلا حراك تقريبا وأطرافها نحيلة جدا وعيناها شبه مغلقتين «لم يكن لدى والدتها ما يكفي من الطعام، ولذا ولدت الطفلة بهذا الشكل»، مضيفة «أتمنى أن تتحسن حالتها، لكن حين أعود بها إلى المخيم، ماذا سأعطيها؟ ليس لدينا ما نأكله».
وتقول أسر لاجئة كثيرة في مخيم كايا يعيشون في صفوف لا نهاية لها من خيام البلاستيك الأبيض، إن الحصص الغذائية الهزيلة التي يتلقونها لا تكفي إلا لوجبة واحدة لأطفالهم. وقالت جميلة (60 عاما) التي فرت من سنار وقطعت رحلة استغرقت سبعة أيام إلى جنوب السودان في يناير/كانون الثاني «قبل الحرب كنا نزرع الذرة الرفيعة والبامية… كانت الحياة جيدة في السودان».
وتعيش جميلة الآن في كايا مع ابنها وابنتها وخمسة أحفاد، وما أقض مضجعها شيء أكثر من القلق على صحة أحفادها. وأضافت «آمنون نحن هنا في جنوب السودان، لكن الحياة صعبة. لا يوجد ما يكفي من الطعام. الأطفال يبكون في الليل جوعا، وأصبحوا في هزال وضعف».
وما لم يُعالج سوء التغذية، فستكون له تداعيات طويلة الأمد على صحة الطفل ونموه.
ويؤدي سوء التغذية الحاد الشديد إلى تعطل أجهزة المناعة لدى الأطفال وقد يجعل من أعراض لا تمثل عادة خطرا على الحياة مثل الإسهال أن تنتهي بالموت. كما قد يؤدي إلى ضمور العضلات وتشوش الرؤية وتأخر النمو وتلف الأعضاء.
وقال مسؤولون بارزون من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة إن جميع اللاجئين في مابان يحصلون على مساعدات غذائية، لكن نقص التمويل في السنوات القليلة الماضية قلص الحصص الغذائية إلى النصف.
ويحصل اللاجئون حاليا على 250 غراما من الحبوب يوميا، فضلا عن مساعدات نقدية لشراء عناصر غذائية أخرى.
وأكدت ماري إيلين ماكغرورتي مديرة برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في جنوب السودان زيادة معدلات سوء التغذية في أنحاء مابان بين اللاجئين والمجتمعات المحلية.
وأردفت «سوء التغذية أسبابه كثيرة، وترتفع معدلاته خلال موسم الأمطار بسبب انتشار الأمراض المنقولة عبر المياه… ومن بين التأثيرات المتراكمة هذا العام زيادة أعداد اللاجئين الوافدين حديثا من السودان. ويعاني كثيرون من الأطفال الذين يعبرون الحدود من ذلك بعد رحلات طويلة للوصول إلى بر الأمان».
وأوضحت أن برنامج الأغذية العالمي يدير برامج علاج ووقاية، مثل تقديم الوجبات المدرسية للأطفال من اللاجئين وفي التجمعات السكانية المضيفة.
وأوجدت الحرب في السودان واحدة من أسوأ أزمات التعليم في العالم. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 90 بالمئة من الأطفال في سن الدراسة والبالغ عددهم 19 مليون طفل في البلاد محرومون من التعليم الرسمي.
وتوصلت أبحاث أجرتها وكالات إغاثة في شهر مايو/أيار الماضي إلى أن المدارس استهدفتها غارات جوية واحتلتها جماعات مسلحة واستخدمتها لتخزين الأسلحة. ونحو ألفي مدرسة في السودان، أي أكثر من واحدة من كل 10 مدارس، تستخدم في إيواء آلاف الأسر النازحة.
وكان أمير (17 عاما) يجيد اللغة الإنكليزية ومولعا بالبرمجة ويدرس علوم الكمبيوتر في الخرطوم حتى أجبره الصراع على الفرار إلى جنوب السودان في يناير/كانون الثاني. وفترت همته بعد إقامته في مخيم كايا التي حالت بينه وبين التعليم، فالمخيم بعيد وفرص التعلم نادرة. ويقول «أشعر بالاكتئاب. قبل الحرب، كانت لدي أحلام وطموحات. أريد أن أدرس وأتعلم، لكن لا يوجد شيء هنا يناسب أشخاصا مثلي… نالت الحرب منا كثيرا. وسُرق مستقبلي».
وافترق مئات الأطفال أيضا عن عائلاتهم بسبب القتال ليصبحوا في مهب مخاطر الاستغلال والتجنيد في جماعات مسلحة والعنف الجنسي. وتشير أحدث بيانات الأمم المتحدة إلى وقوع أكثر من 1700 انتهاك لحقوق الأطفال في السودان خلال عام 2023. وشملت هذه الحالات أكثر من 1240 حالة قتل وتشويه لأطفال ومئات الحالات من التجنيد والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي.
وتقول السلطات في جنوب السودان إنها تعمل مع منظمات إنسانية لدعم الأطفال اللاجئين، لكن البلاد، وهي واحدة من أفقر دول العالم، تعاني من ضغوط هائلة. وقبل الحرب، كانت المنطقة موطنا لنحو 275 ألف لاجئ، معظمهم من السودان جاءوا قبل أكثر من عقد بسبب صراعات سابقة.
وقال بيتر ألبرتو مفوض مقاطعة مابان إنه على علم بالتحديات المتعلقة بحماية الأطفال وطالب بتعزيز الدعم، وخاصة في مضمار منع استخدامهم كجنود، مضيفا «ربما خطفت الجماعات المسلحة البعض منهم وجندتهم… يتعين التحقق من ذلك لمعرفة نطاق التجنيد ومن الذين يتم استخدامهم في خوض الحرب. في بعض الأحيان، يستخدمون الأطفال لجمع المعلومات الاستخباراتية».
وتدعو وكالات إغاثة إلى وقف إطلاق النار وتوفير الوصول الآمن إلى الفئات السكانية الأضعف ومزيد من التمويل من المانحين الدوليين. وناشدت الأمم المتحدة المانحين جمع 2.7 مليار دولار، لكن حجم التبرعات لم يبلغ إلا نصف المبلغ المطلوب.
وقال عبداللطيف من منظمة إنقاذ الطفولة «الأطفال يتمتعون بقدرة خارقة على الصمود، ومع الدعم المناسب، يمكنهم البقاء والازدهار ليصبحوا يافعين أصحاء ومنتجين»، مؤكّدا بأنه «يتعين على العالم أن يتدخل الآن لتقديم المساعدة التي هم في أمس الحاجة إليها… وبدون هذا الدعم، يصبح مستقبلهم غامضا إلى حد كبير»
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.