الحرب التي اغتصبت الأحلام: بشاعة انتهاكات الجيش السوداني في جنوب السودان (1983-2005)”
تقرير / بقلم عمار نجم الدين
مقدمة: حين تصبح الحياة عبئاً على أصحابها كانت الحرب الأهلية الثانية في السودان (1983-2005) من أكثر الحروب قسوة وتعقيداً في تاريخ القارة الإفريقية. لم تكن مجرد مواجهة بين الشمال والجنوب، بل حرباً ممنهجة على إنسانية الجنوبيين، استندت إلى تاريخ طويل من العنصرية والرق. وكما أوضح د. منصور خالد في كتابه “جنوب السودان في المخيلة العربية”، نظرت النخب الشمالية للجنوبيين على أنهم “أقل من مواطنين وأقرب إلى عبيد”.
استُخدم القتل الجماعي، الاغتصاب، والتهجير القسري كأدوات حرب لإخضاع الجنوبيين، في محاولة لتدمير هويتهم. لكن أطرافاً إقليمية، بما في ذلك مصر وإيران والعراق، ساهمت في إطالة أمد هذا الصراع، من خلال دعم النظام السوداني عسكرياً وسياسياً. كانت مصالح هذه الدول أكثر أهمية من الأرواح التي زهقت في الجنوب، حيث قدمت الأسلحة، الطائرات، والجنود لنظام الخرطوم.
القتل الجماعي: تفريغ الأرض من سكانها الأصليين
في مدن وقرى مثل بور، جوبا، وبانتيو، نفذت القوات السودانية مجازر مروعة. في مجزرة بور عام 1991، على سبيل المثال، قُتل أكثر من 2000 مدني خلال أيام قليلة. كان الهدف هو إخلاء القرى والمناطق الاستراتيجية لضمان سيطرة الحكومة على الموارد الطبيعية، وخاصة النفط.
قال أحد الناجين من المجزرة: “عندما هربنا، كانت الجثث تملأ الشوارع وكأن الحياة توقفت فجأة. كنا نختبئ من الطائرات كما يختبئ الأطفال من الوحوش في الظلام”.
الاغتصاب والاستعباد الجنسي: استمرار لنهج الرق
لم يكن الاغتصاب في هذه الحرب مجرد جريمة حرب؛ بل كان سلاحاً منظماً لإذلال المجتمعات الجنوبية. وكما أشار د. منصور خالد، فإن العنف الجنسي كان إعادة إنتاج حديثة لنهج الاسترقاق.
في كل مرة كانت قوات الجيش السوداني تقتحم قرية، كان الجنود يأخذون النساء كغنائم حرب، يتم اغتصابهن بشكل جماعي أو إجبارهن على الزواج القسري. في مناطق مثل بحر الغزال وأويل، تعرضت آلاف النساء والفتيات لهذه الاعتداءات.
قالت إحدى الناجيات من بحر الغزال: “كان الجنود يضحكون ونحن نبكي. لم نكن نعرف إن كنا سنعيش أو نموت، لكننا كنا متأكدين من أنهم سيستغلون أجسادنا”.
التهجير القسري والتجويع: الموت البطيء
اعتمد النظام السوداني على سياسة الأرض المحروقة لتفريغ المناطق الجنوبية، حيث أحرقت القرى والمزارع، مما أجبر السكان على النزوح الجماعي. في مجاعة بحر الغزال عام 1998، مات أكثر من 70,000 مدني بسبب الحصار ومنع وصول المساعدات الإنسانية.
“أكلنا أوراق الأشجار لننجو من الجوع”، قال أحد النازحين، “لكن حتى الأشجار ماتت في النهاية”.
دور مصر في الحرب: مصالح النيل على حساب الأرواح
كان دعم مصر للسودان نابعاً من مخاوف جيوسياسية تتعلق بمياه النيل. رأت مصر أن وحدة السودان ضرورية لضمان استمرار تدفق مياه النيل، وخشيت أن يؤدي استقلال جنوب السودان إلى إعادة النظر في اتفاقيات المياه التي تمنحها الحصة الأكبر. لذلك، دعمت مصر النظام السوداني، رغم الفظائع التي ارتكبها ضد المدنيين.
1. دعم سياسي ودبلوماسي
عملت مصر على تأمين الدعم الدولي للنظام السوداني، ورفضت أي محاولات لإيجاد حلول تدعو إلى انفصال الجنوب في وقت مبكر.
2. دعم عسكري ولوجستي
قدمت مصر تدريباً للضباط السودانيين في مؤسساتها العسكرية، كما زودت الجيش السوداني بالأسلحة والذخيرة في فترات حرجة.
3. علاقات استخباراتية
تعاونت الاستخبارات المصرية مع النظام السوداني، مما ساعد في تحديد مواقع قادة المعارضة الجنوبية واستهدافهم.
دور إيران والعراق في دعم الجيش السوداني
لم تكن مصر وحدها التي دعمت الخرطوم. إيران والعراق لعبتا دوراً محورياً في إمداد الجيش السوداني بالأسلحة والطائرات والدعم الفني، ما مكن النظام من تكثيف حملاته العسكرية في الجنوب.
1. دعم إيران العسكري
قدمت إيران أسلحة متطورة وطائرات حربية للجيش السوداني، وساعدت في تدريب قوات سودانية خاصة على تنفيذ عمليات عسكرية. كما ساهمت في إنشاء ميليشيات شبه عسكرية لتعزيز القدرات القتالية للنظام.
2. دعم العراق في زمن صدام حسين
تعاون العراق مع السودان خلال الثمانينيات والتسعينيات، حيث زود الخرطوم بمعدات عسكرية وطائرات. كما قام ضباط عراقيون بتدريب الطيارين السودانيين، مما عزز من قدرة الجيش السوداني على قصف القرى الجنوبية.
تجنيد الأطفال: الطفولة المسروقة
لم يسلم الأطفال من هذه الحرب، حيث تم تجنيد أكثر من 10,000 طفل في صفوف الجيش باسم الخدمة الوطنية . هؤلاء الأطفال حُرموا من طفولتهم، وأُجبروا على القتال في معارك لا يفهمونها.
قال أحد الأطفال المجندين: “أعطوني بندقية وقالوا لي: إما أن تقتل أو تُقتل. لم يكن لدي خيار”.
شهادات وتقارير على الفظائع
1. تقرير منظمة العفو الدولية (1999): “الأرض المحروقة – النفط والحرب في السودان”
• يوثق كيف استخدمت الحكومة السودانية سياسة الأرض المحروقة لإخلاء القرى من سكانها.
2. تقرير هيومن رايتس ووتش (1999): “الجوع والحرب: الأسباب الحقوقية للمجاعة في السودان”
• يكشف عن استخدام العنف الجنسي الممنهج، ويؤكد أن الاغتصاب كان أداة عسكرية لتحطيم المجتمعات.
3. تقرير الأمم المتحدة (2005): “انتهاكات حقوق الإنسان في الحرب الأهلية السودانية”
• يُبرز التهجير القسري وتجنيد الأطفال، ويدعو إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
اتفاقية السلام: هل انتهى الألم؟
في عام 2005، وُقعت اتفاقية السلام الشامل (CPA)، التي منحت الجنوب حكماً ذاتياً، ومهدت الطريق لاستفتاء الاستقلال في 2011. بعد الاستفتاء، أصبح جنوب السودان دولة مستقلة، لكن كما قال د. منصور خالد: “لم يكن السلام سوى هدنة مؤقتة مع الألم”، حيث بقيت جراح الحرب مفتوحة، واستمرت معاناة الناجين.
خاتمة: العدالة الغائبة والمستقبل المجهول
لم تكن الحرب الأهلية في جنوب السودان مجرد صراع سياسي، بل إبادة جماعية منظمة، ساهمت فيها دول إقليمية لتحقيق مصالحها. قدمت مصر، إيران، والعراق الدعم للنظام السوداني، غير مكترثين بالضحايا.
يجب محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم لتحقيق العدالة. فالسلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق بدون الاعتراف بالمآسي ومحاكمة الجناة، حتى لا تصبح هذه الجرائم وصمة أبدية في ضمير الإنسانية.
المراجع
1. Amnesty International. (1999). Sudan: The Scorched Earth – Oil and War in Sudan.
2. Human Rights Watch. (1999). Famine in Sudan: The Human Rights Causes.
3. United Nations. (2005). Report on Human Rights Violations in the Sudanese Civil War.
4. Douglas H. Johnson. (2011). The Root Causes of Sudan’s Civil Wars. James Currey.
5. منصور خالد. (2000). جنوب السودان في المخيلة العربية. مطبعة جامعة الخرطوم
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.