الحرب الأخيرة .. من زواية بعيدة 

عبد الجليل سليمان

 

أشعلت النخب وريثة كرسي المستعمر؛ الحروب الأهلية مبكراً؛ متذ عام ١٩٥٥، و قبل أن يستفيق السودان من هدأة الاستعمار ونعيمه؛ إذ لم يكن الاستعمار شراً بالمطلق، بل لم يكن شراً مطلقا في حال الكثير من الدول الأفريقية وعلى رأسها السودان .

محاربو ما بعد الاستعمار هم من اختطفوا (الدماغ) الجمعي للشعوب السودانية وغسلوه بماء قذر؛ مفاده أن الاستعمار هو من تسبب في هذا الشقاء المقيم الذي ما انفكت تزرح فيه حتى لحظة الخرطوم الراهنة، فيما كان الاستعمار يحمي تلك الشعوب المقهورة من جنون حكام المستقبل من نسل الدولتين الفونجية والمهدوية.

قالوا: إن قانون المناطق المقفولة الذي سنه الإنجليز لحماية مواطني جنوب السودان من حملات الاسترقاق والتعريب والأسلمة القسريتين؛ هو ما أدى بعد عقود إلى استقلال الجنوب دولة ذات سيادة وعلم يرفرف.

قالوا: إن ذهاب الجنوب إلى حاله سيجعل ما تبقى من البلد آمنا مطمئنا بعد أن تخلص من سلالة الأبالسة الملاعين.. فصدقتهم الأدمغة المختطفة، فهللت وكبرت؛ وها هي الحرب تنقل من الأطراف النائية إلى قلب البلاد وعاصمتها بعد ١٢ عاما فقط من تصويت شعوب الجنوب لخيار الانفصال. .

قلنا حينها؛ أن هذا الفرز لن يكون الأخير .. فهاجوا وماجوا؛ وقالوا إن علة الحروب انتفت؛ فبعد خروج الجنوب من المعادلة أصبح السودان عربيا مسلما ذي قبلة عرقية ولغوية وثقافية ودينية واحدة وموحدة.

(١)

سألنا كيف ذلك؟ أفلا تنظرون شمالا وشرقا وغربا وجنوبا؟

قالوا يكفي الإسلام.. قلنا : ليس كلهم مسلمون؛ وحتى لو كانوا كذلك فالاسلام لا يكفي؛ ألا ترون الصومال وافغانستان واليمن؟

قالوا: نحن حالة خاصة؛ لا نشبه أحد . حالة استثنائية في النزوع نحو التعايش السلمي بينما العالم كله يراهم وهم يفنون بعضهم منذ دولة عمارة دونقس.. ولولا أوقفتها الخديوية لسنوات لما وجدنا على ظهر هذه الأرض(نفاخ النار)؛ ثم المهدية التي لولا أوقفها السيد كتشنر لما وجدنا الآن في هذه الأرض بشر يدبون ولا حياة.

عندما حل الضابط الإنجليزي ورهطه بالخرطوم عام ١٨٩٨؛ وجدوا أرضا واسعة بدون بشر .. ماتوا بالحروب والمجاعات.. كان عدد سكان السودان أقل من ٢ مليون.. أبيدت جماعات بأكملها ومجملها بزمامها وخطامها.

الحروب الأهلية القائمة على العصبية القبلية (وإن أنكر ) الجميع ذلك، هي عادة وتقليد قديم؛ ولن تتوقف إلا بالديموقراطية.. لن يوقفها الدين الواحد ولا اللغة الواحدة ولا الثقافة الواحدة ولا العرق الواحد .. ولكم في الصومال أسوة حسنة.

(٢)

حاول الكيزان المساخيط كممثلين للنخب الحاكمة تجريب ذلك .. فصلوا الجنوب باعتباره الأكثر بعدا عن الجميع.

وفي دارفور استدعوا ما سموها مجازا بالجماعات العربية ضد الافارقة المتمردين؛ فحولوا الحرب من مطلبية إلى عرقية.. وظنوا أن العرب للعرب ظهير يساند بعضهم بعضا للقضاء على الأفريقانيين بدءا من الغرب .. ثم الشرق.. ثم الاستفراد بنوبة الشمال .. ومن ثم تأسيس الدولة العربية الخالصة في بلاد السودان. وليس مثل حميدتي حاميا لها فأحضروه إلى خرطوم الخديوي.. ينظر إليه الجميع فيخشونه.. تقشعر له الأبدان ويهابه الأفارقة الرعاديد والثوريين من المارقين حتى إن هتفوا(جنجويد رباطة) فإن ذلك محض تعويض نفسي لحالة الرعب التي يعيشونها.

الآن.. دارت عليهم الدوائر .. نخبا (عروبسلامية) وجنجويد.. ففيم يتحاربون.. وكلهم بحسب معتقداتهم عربا خلصا ومسلمين مخلصين لديهم السلطة والمال والسلاح.. ومجلس السيادة وجبل عامر ومروي قولد والتصنيع الحربي والرتب العظيمة وأجهزة التجسس والقمع؛ استحوذوا عليها ك (غنائم حرب) وما إن استقر الامر لهم وانقلبوا على المسار الديموقراطي واستفردوا بالحكم مع قسمة ضيزى مع شركاء الحرب والسلاح (حركات الكفاح المسلح أو المسلحة) حتى برزت التناقضات بينهم.. لم تشفع لهم ما ظنوا أنها مشتركات.. لا إسلام وهم لايعرفون إلا القليل منه؛ ولا العروبة المدعاة التي يضحك ويسخر المحيط كله من أدعيائها وآخرهم ذلك العميد الطبيب طارق الهادي ذو الملامح (الزنجية القوية).. الذي أدعى أن النبي محمد (ص) جده مباشرة؛ حتى لقبه البعض بالعميد بن عبد المطلب.

لم تشفع لهم هذه الكذبات الصغيرة ولا الأكاذيب الكبيرة.. وها هم يسحقون بعضهم بعضا سحق الجبناء مندسين ومحتمين بالمدنيين ومختبئين في الأنفاق و(والكراكير) .

(٣)

إنها حرب الخرطوم الاخيرة.. فإما تعود الأمور إلى سياق العدالة والمساواة.. إلى الديموقراطية.. أو يتجزأ السودان.. لا خيار آخر .. فبعد هذه الحرب لن يحكم الجيش ولن يحكم الجنجويد ولن يحكم الاسلاميين ولن يحكم مجلس الحرية والتغيير المركزي ولا كتلتها الديمواقرطية كل على حده أو بتحالف منفرد من العسكر. وأي عسكر ؟ وهم منقسمون متحاربون؟

هذه الحرب التي تدور بين قيادة الجيش المختطفة من الكيزان وقيادة الدعم السريع المحتكرة من آل دقلو؛ في ظاهرها؛ فيما تدور في حقيقتها بين العرب الحضر والعرب البدو ؛ كما يظنون؛ هي التي ستحسم الجدل حول بقاء السودان كيانا واحدا بنظام حكم ديموقراطي.. أم تشظيه دويلات هشة ضعيفة مفككة..إنها الحاسمة القاصمة.

***

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.