التواطؤ مع الفاشية: قراءه في لمغالطات بيان “تنسيقية منابر وكيانات أبناء جبال النوبة” 1-2

✍️🏽 خالد كودي، بوسطن، 15/ 3/ 2025

 

بين الولاء الأعمى والحقائق التاريخية:

صدر مؤخرًا بيان عن “تنسيقية منابر وكيانات أبناء جبال النوبة والشخصيات الاعتبارية”، الذي أُعلن فيه دعم حكومة بورتسودان والجيش السوداني، وانتقاد مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان في الحكومة الموازية.

يأتي هذا البيان في ظل أزمة سياسية متفاقمة، حيث يسعى الجيش السوداني، المتحكم في الدولة منذ الاستقلال، إلى إعادة إنتاج النظام القمعي، مستندًا إلى دعم بعض القوى التي توهمت أن التماهي مع السلطة يمنحها حماية أو امتيازات سياسية. إلا أن التاريخ، كما يثبت مرارًا، لا يرحم المتعاونين مع الأنظمة القمعية، ولا يمنحهم مكافآت حقيقية، بل يزجّ بهم إلى هوامش النسيان، بعد أن تُستنفد أدوارهم الوظيفية كعناصر للترميز التضليلي.

فبين الجهل السياسي والتواطؤ الواعي شعرة:

لم يكن من المستغرب أن يوقّع على هذا البيان أفرادٌ من المؤسسة العسكرية والأمنية والمخابراتية، والانتهازيين بالإضافة إلى عناصر من التيارات الإسلامية وفلول النظام السابق، فهؤلاء اعتادوا خدمة الأنظمة الاستبدادية وتعزيز سطوتها

إلا أن ما يثير الدهشة حقًا هو وجود أسماء أكاديمية بارزة ضمن قائمة الموقعين، ممن يُفترض فيهم امتلاك القدرة على التحليل النقدي واستيعاب دروس التاريخ. فكيف يمكن لمثقفين وأكاديميين أن يبرروا الاستبداد ويقفوا ضد الحقوق الأساسية لشعوبهم؟

الاستعمار العقلي والاستلاب النفسي:

يمكن فهم هذا الموقف من خلال تحليل علم النفس السياسي، خاصة عبر المفاهيم التي طرحها فرانز فانون في كتابه “معذبو الأرض”، حيث يوضح كيف أن المستعمَر، حين يفقد وعيه بقوته وكرامته، يبدأ في التماهي مع جلاده، بل ويسهم في ترسيخ سلطته على أمل الحصول على اعتراف أو حماية. لكن الحقيقة الصارخة هي أن الأنظمة القمعية لا تمنح الحقوق، ولا تعترف بولاء المتعاونين معها، بل تستغلهم كأدوات مؤقتة، ثم تتخلص منهم حين تنتهي فائدتهم.

الجيش السوداني الذي يدعوه البيان للحماية لم يكن يومًا جيشًا وطنيًا، بل كان دائمًا أداة الدولة السودانية العنصرية للقمع الداخلي، عبر المجازر الجماعية، والقصف الجوي، وتفريخ المليشيات، لضمان استمرار سلطته الدموية. إن من يدعو لدعم هذا الجيش، تحت ذريعة تحقيق الاستقرار، لا يفعل سوى تسليم رقاب شعبه إلى جلاده، كما فعل المتعاونون مع الأنظمة الاستعمارية والقمعية عبر التاريخ.

دروس التاريخ لمن لايعرف: كيف انتهى المتعاونون مع الأنظمة القمعية:

١/ سقوط القسطنطينية (1453): عندما فتح الخونة الأبواب للغزاة:

عندما حاصر العثمانيون القسطنطينية عام 1453، لم يكن سقوطها فقط بسبب قوتهم العسكرية، بل لأن بعض القادة البيزنطيين تحالفوا مع العدو ضد إمبراطورهم، على أمل نيل الامتيازات بعد الاحتلال

لكن عندما دخل العثمانيون المدينة، لم يفرقوا بين المتعاونين والمقاومين، بل سحقوا الجميع، وسقطت الإمبراطورية البيزنطية إلى الأبد.

الدرس الذي يجب علي كاتبي البيان استيعابه: الخيانة لا تحمي أحدًا، بل تسرّع سقوط الجميع:

٢/ سقوط الأندلس (1492): كيف خان بنو الأحمر غرناطة:

عندما حاصر الإسبان مدينة غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، تواطأ حكام بني الأحمر مع الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا، ظنًّا منهم أنهم سينجون من المصير المحتوم. لكن بمجرد سقوط المدينة، نكث الإسبان وعودهم، وأجبروا المسلمين على التنصير القسري، ثم طردوهم جميعًا، لينتهي الوجود الإسلامي في الأندلس للأبد.

الدرس: المستبد لا يفي بوعوده، والمتعاونون معه أول من يُدفع بهم إلى المحرقة:

٣/ سقوط بغداد (2003): العملاء الذين صدّقوا وعود المحتل:

عندما اقدمت الولايات المتحدة علي غزو العراق عام 2003، لم يكن سقوط بغداد بسبب التفوق العسكري فقط، بل لأن بعض العراقيين تواطؤوا مع الاحتلال، على أمل الحصول على الامتيازات و السلطة. لكن بعد أن أحكمت القوات الأمريكية سيطرتها، تُرك العملاء لمصيرهم، وتمت تصفيتهم سياسيًا وجسديًا، ولم يحقق أي منهم ما كان يأمله.

الدرس: الاحتلال لا يمنح السلطة او الاحترام للمتعاونين معه ابدا، بل يستخدمهم كأدوات ثم يتخلص منهم.

المتعاونون مع الأنظمة القمعية: من أداة للاستبداد إلى ضحية له:

لم يكن أي طاغية عبر التاريخ وفي أي مكان بالعالم مخلصًا لأتباعه من المتعاونين معه ضد شعوبهم. الطغاة لا يرون في المتعاونين سوى أدوات تُستخدم، ثم تُرمى بعد انتهاء فائدتها:

١/ جنكيز خان والمتعاونون مع المغول: الخيانة لا تضمن النجاة:

عندما غزا جنكيز خان إمبراطورية خوارزم عام 1219، استقبل بعض القادة الخوارزميين الغزاة بالخضوع، ظنًّا منهم أنهم سينالون امتيازات لكن بعد أن استخدمهم المغول في إسقاط المدن، أمر جنكيز خان بإعدامهم جميعًا، قائلاً: “من يبيع شعبه لا يستحق أن يعيش بينهم”

الدرس: الخونة هم أول من يُباد، لأن لا أحد يثق فيهم والكل يحتقرهم:

٢/ نابليون وإعدام المتعاونين الإسبان:

عندما غزا نابليون إسبانيا عام 1808، وجد بين النخب الإسبانية من هم على استعداد لخدمة المحتل مقابل مكافآت مادية وسياسية لكن حين بدأت المقاومة الإسبانية تطيح بالفرنسيين، أدرك نابليون أن هؤلاء لم يعودوا ذوي فائدة، فأعدم العديد منهم، وترك البقية ليُقتلوا على يد الإسبان الغاضبين، الذين لم يغفروا لهم تواطؤهم!

الدرس: المحتل يقتل من يخدمونه عاجلا ام الا، والشعب لا يغفر لمن خانه.

دروس التاريخ في مصير المتعاونين مع الأنظمة القمعية:

عبر التاريخ، أظهرت الوقائع أن التواطؤ مع الطغاة لا يمثل ذكاءً سياسيًا أو استراتيجية ناجحة، بل هو رهان خاسر، لا يمنح صاحبه سوى العار والخيانة، قبل أن ينتهي به الأمر ضحية لنفس القوى التي خدمها. وكما أشار الفيلسوف الصيني صن تزو في كتابه الشهير فن الحرب:

“من تعاون مع الطغاة، لن يكون أمينًا مع أي أحد، حتى مع من خانه لأجله”

فالمستبد، بطبيعته، لا يثق إلا في سلطته، ويرى في المتعاونين معه مجرد أدوات مؤقتة يسهل التخلص منها بعد انتهاء دورها. وهذا ما عبّر عنه القائد الثوري تشي جيفارا بقوله

“من يسلم بلاده للأعداء، لن يجد له مكانًا بينهم عندما ينتهي دوره”

أما ونستون تشرشل، الذي قاد بريطانيا خلال أحلك فترات القرن العشرين، فقد لخص هذه الحقيقة السياسية بقوله

“المستعمر يحتقر المتعاونين معه، حتى لو استفاد منهم”

المصير المحتوم لمن يخدمون الطغاة:

إن التاريخ لا يحفظ للخونة مكانةً مشرفة، ولا تعترف الشعوب بأولئك الذين اصطفوا إلى جانب مضطهديها. فالتواطؤ مع الأنظمة القمعية ليس براغماتية سياسية، بل هو مقامرة مميتة تنتهي دائمًا بسقوط المتواطئ في هوة الإقصاء والخذلان

الطغاة لا يمنحون الولاء، بل يستعملون المتعاونين معهم ثم يتخلصون منهم، لأنهم يدركون أن من خان شعبه مرة، سيبيعه مرات أخرى. الشعوب قد تعاني من الاستبداد، لكنها لا تنسى من وقف إلى جانب جلاديها، والتاريخ يخلد أسماء المقاومين، بينما يحكم على الخونة باللعنة والنبذ.

النتيجة الحتمية للمتواطئين كانت دائمًا واحدة: الإقصاء، الإعدام، الاحتقار والنسيان. لقد أثبتت التجربة الإنسانية أن الذين يتوهمون أن التودد إلى الطغاة هو طريق للنجاة، يكتشفون بعد فوات الأوان أنهم كانوا مجرد أدوات تُستخدم لمرة واحدة، ثم تُلقى جانبًا دون شفقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.