التعـمـيـم والإخـتـزال: وَبَـاء على النسيج الإجتمـاعي في السـودان (جدل وسجالات أولاد الغرب وأولاد البحر).

✍️ أبو بكر إبراهيم إسماعيل

 

المستعمر أياً كان نوعه في أيّ بلدٍ يترك آثار سالبة وبعيدة المدى. وبعد إخراجه تعمل الشعوب المستَعْـمَـرة على معالجة تلك الآثار بخطوات وسياسات ممنهحة لبناء هذه الدول. ولكن للأسف السودانيين يستخدمون نفس سياسات المستعمر، وقد جعلوها إستراتيجية لحكم البلاد وإحتفطوا بثنائية تقسيم المجتمعات السودانية، حيث صارت قنابل موقوتة وسوس يَـنْخـر في كيان النسيج الإجتماعي السوداني لفترات طويلة، وما زال.

لم تكترث النخبة لذلك كثيرا حتى الآن.

 

هذه السياسات والثنائيات التمييزية والعنصرية قسمت السودانيين على اُسس عرقية وجهوية ولغوية ودينية … إلخ. وهنا نذكر البعض منها:

 

1- ثنائية السادة – والعـبـيـد.

 

2- تقسيم العمل حسب ثنائية السادة – والعبيد.

 

3- مسلمين – ومسيحيين (كفار) ولا دينيين (وثنيين).

 

4- ثٌنائية أولاد البحر أو البلد (الجعليين والشوايقة)، وأولاد الغرب(البقارة عموماً).

 

هذه الثنائيات فيها تعميم وإختزال مُخِل لدرجة بعيدة، وإذا عُدنا للثنائية الأولى نجد أنها ناتجة عن الإستعباد وتجارة الرق كنشاط قديم مارسته شعوب كثيرة ولفترات طويلة في العالم، ولكن تمّ منعها بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتعافت منها أغلب الدول والشعوب في العالم وبنوا دولهم بإدارة التنوع والمواطنة على أساس الحقوق والواجبات. أمّا السودان رغم إصدار كتشنر باشا مرسوماً بمنع تجارة الرق في السودان عام 1899م في الأوراق الرسمية ولكنها كممارسة ظلت موجودة بشكل أو بآخر، وكان حوالي (15,000) سوداني يعملون في تجارة الرقيق في عهد الأتراك والمهدية والإنجليز، وعارضوا ذلك المرسوم بحجج واهية. وما زالت آثار الرق موجودة في السودان رغم إستقلال البلاد. وقد ألقت بظلالها السالبة على التربية الوطنية وأدت إلى بروز مشكلة الهوية السودانية والتي لم تُحل حتى الآن.

والثنائية الثانية ترتبط بالأولى، حيث إرتكز تقسيم العمل على هذه الثنائية بصورة تلقائية وظهرت موانع هيكلية تمثلت في عدم المساواة بين الشعوب السودانية، وأنتجت التنمية غير المتوازنة في البلاد، وقامت ثورات في أماكن مختلفة من السودان تطرح المطالب نفسها (المساواة، التنمية المتوازنة، … إلخ). ولم تجد هذه المطالب أي إهتمام من الحكام حتى إنفصل جنوب السودان ولا زالت هذه النخب تنتهج نفس السياسات.

الثنائية الثالثة: تتمثل في تمييز المواطنين على أساس معتقداتهم حيث صار ذلك سببا رئيسيا في تخلف الدولة السودانية وإقعادها والحيلولة دون الوصول إلى مرحلة الدولة الحديثة التي تضم إثنيات مختلفة بدياناتهم ومعتقداتهم ولغاتهم وثقافاتهم وعاداتهم المتنوعة، ولا يستطيع أحد أن يقارن السودان الآن مع أيُّ دولة حديثة في العالم .. والدليل ماثل أمامنا حالياً.

أمّا الثنائية الرابعة: أولاد البحر / البلد (الجعليين والشوايقة)، وأولاد الغرب (البقارة عموماً)، ثنائية مُجحفة إختزلت عـدد كبير من القبائل في الجهتين، مثلاً: في الشمال (البحر / البلد) توجد قبائل أخرى غير الجعليين والشوايقة. حيث نجد (الحلفاويين، المحس، السكوت، الدناقلة، المناصير، الرباطاب، الجعافرة .. وغيرها). وفي غرب السودان إجحاف أكبر، فقد تمّ إختزال كل الشعوب الأصيلة الموجودة لآلاف السنين بسلطناتهم وثقافاتهم المختلفة في كلمة أولاد الغرب في إشارة إلى (البقارة) الذين إستضافتهم تلك السلطنات في سلطناتهم وحواكيرهم. وهذا التعميم المخل كان نتاج صراعات المهدية بعد وفاة (محمد أحمد المهدي) بين أخوان المهدي (أولاد البحر) والخليفة عبدالله التعايشي (البقاري) – أولاد الغرب.

وكما هو معلوم، فقد قامت ثورات كثيرة ضد الدولة المهدية في مناطق مختلفة من السودان، وخاصة بعد وفاة المهدي، وليس أقرباء المهدي ومن سموا أنفسهم (أشراف) وحدهم. وهنا اُريد أن أذكر فقط ثورة عظيمة قامت ضد الدولة المهدية في غرب السودان دون الأماكن الاٌخرى حتى يعلم الجميع هذا الإختزال والتعميم المقصود.

لقد تعاقب أربعة حكام على إقليم دار فور في عهد الدولة المهدية، إثنان قبل وفاة محمد أحمد المهدي هما: (محمد خالد زُقل، وكرم الله الكركساوي)، وإثنان في عهد الخليفة عبد الله التعايشي، هما: (عثمان جانو الأخ الأصغر للخليفة، – ومحمود ود أحمد)، وهو أيضاً أحد أقرباء الخليفة التعايشي.

كَرِهَ جميع سكان الغرب حكم المهدية وسموه حكم التعايشة، بل سموا (عثمان جانو) بعثمان (جان) بسبب قسوته وظلمه وجُوره وتهجيره للاُسـر الحاكمة بأكملها إلى أم درمان.

كان هنالك رجل يدعى أبو جميزة (محمد الزين) كان أنصارياً ملتزما وموجوداً في أم درمان عاصمة المهدية. لم يعجبه تصرفات المهدية، فتركهم وجاء ومكث شمال مدينة (الجنينة) بغرب دافور.

الخليفة التعايشي دعا سلطان المساليت (إسماعيل عبد النبي) إلى أم درمان ومات هناك، والسلطان (أبّكر) الإبن الأكبر لإسماعيل غضب من ذلك التصرف ووجد ضالته في (أبوجميزة) الغاضب من تصرفات المهدية وأصبح له كأب روحي وثار معه ضد المهدية وأصبح (أبّكر) القائد العسكري الأول له، وإلتفّ حولهما كل سلاطين الغرب المظلومين من حكم المهدية وهم سلاطين: (الفور، الزغاوة، التاما، القمر، وداي، الداجو) وكل المكونات الموجودة داخل تلك لسلطنات.

وفي فترة ثلاثة أشهر فقط أعدوا جيش المقاومة. وتحركت قوة الأنصار بثلاثة سرايا:

-سرية بقيادة عبد القادر دليل، وحامد مجبور، والعطا الأصول.

-سرية بقيادة أحمد محمد، ومالك أحمد.

-والسرية الثالثة بقيادة هارون البيج، وإبراهيم عيسى، وشريف دشو.

وإلتقوا بجيش المقاومة في معركة (إريجي) شمال شرق مدينة (الجنينة) في يوم 9 سبتمبر 1888 وإنهزم الأنصار.

المعركة الثانية كانت في (أبوقرين) يومي 2 – 3 أكتوبر 1888 وإنهزم الأنصار أيضا.

المعركة الثالثة كانت في (أم دخن) جوار منطقة (كرينك) الحالية في نوفمبر 1888. بلغ عدد جيش الأنصار في تلك المعركة (16,253) مقاتل ولكنهم إنهزموا كذلك.

لقد إنهزموا في ثلاثة معارك كبيرة خلال شهور بسيطة – وبالتالي إنهزمت المهدية.

قررت المهدية دخول معركة أخرى في منطقة (الطينة) بتاريخ 22 فبراير 1889، وكان عدد جيش الأنصار (36,419) وإنهزم جيش المقاومة في تلك المعركة، وتنفس (عثمان جانو) سعيداً من روائح دماء أعدائه.

فقرر سريعاً غزو (دار مساليت) بحكم أنّها قلب المقاومة، ولأنّ كل المعارك التي إنهزمت فيها المهدية كانت داخل دار مساليت بإستثناء معركة (الطينة) الأخيرة التي إنتصر فيها.

والسلطان أبّكر كان قائد المعارك الثلاثة المذكورة، ولذلك كان بالضرورة أن يبدأ بهم طالما الروح المعنوية قوية لجيش الأنصار بإنتصارهم ذلك.

تحرك (جانو) صوب (دار مساليت) حتى وصل (كبكابية) وتحرك سلطان (أبّكر) مع جيشه نحو شمال شرق (كرينك) وإلتحموا في معركة (تَكَجَو) في يوليو 1890 وكان عدد جيش الأنصار (37,000) ولذلك مات عدد كبير من جيش (المساليت) وتوغل (عثمان جانو) داخل (دار مساليت) وحرق القرى وقتل عدد كبير من السكان وتمركز في منطقة (الشُبُكى) (Cûbûkê) قُرب منطقة (أردمتا) العسكرية بشرق مدينة (الجنينة) وتوعد المساليت والبرقوا قائلاً: (يا مساليت أمشوا أعقبوا الشمس من الغرب وورُّوا برقاوي أبْكَرِشْ يبقى دَرَتْ نِلِمو معاه).

ولكن السلطان (أبّكر) ومن معه فكّرو في تكتيك آخر، وهو تشتيت جيش الأنصار في أماكن مختلفة وحصارهم وتجويعهم، لأنهم يعلمون أنّ كل الإقليم ليس فيه ما يكفي من الذرة بسبب الحروب المتتالية التي تسببت في مجاعة (سنة 6) المشهورة في السودان.

أرسل (جانو) قوة بقيادة (الدود – وأبردي) إلى إتجاه منطقة (مستري) التي تقع جنوب غرب مدينة (الجنينة) ولكنهم تفاجأوا بهجوم مباغت في (مستري) بقيادة الفرشة (توجا بري) وألحقوهم هزيمة كبيرة.

لم يدم إحتلال الأنصار للإقليم طويلاً لأسباب كثيرة: أهمها الحصار المستمر والتجويع، والمقاومة الشرسة وطبيعة المنطقة بأمطارها الغزيرة، وظهور مرض (الكوليرا) وسط جيش الأنصار.

وفي يوم 29 أغسطس 1890 قرر (جانو) العودة إن إلى الفاشر وفي طريقهم مات عدد كبير من قادة الأنصار وجيشه بسبب المرض والجوع ووصلوا الفاشر يوم 5 أكتوبر 1890 ومات (عثمان جانو) بعد 4 أيام من وصوله. وهناك رواية اُخرى تقول أنّ (جانو) مات في منطقة (طويلة) وجاؤوا بجثمانه إلى الفاشر ودفنوه.

نعود ونٌقارب بين غـزو (عثمان جانو) لدار مساليت في عام 1890، بغـزو (محمد حمدان دقلو) لدار مساليت عام 2023، فماذا نستنتج من هذه المقاربة؟ وهل (دار مساليت) أصبحت (دار تعايشة) بذلك الغـزو؟. وهل ستصبح دار مساليت بلد رزيقات بغزو محمد حمدان دقلو الآن؟؟.

نترك هذه التساؤلات للقراء، كل على حدا ليقرأها بالزاوية التي يراها.

بعد ذلك أرسل (الخليفة عبد الله التعايشي) قريبه محمود ود أحمد حاكماً لإقليم دارفور، وظل 5 سنوات من عام (1891- وحتى 1896). وكما هو معلوم أنّ (محمود ود أحمد) هو من غزا (المتمة) في 1 يوليو 1897 وإصتطدم بقوات (عبد الله ود سعد) زعيم الجعليين آنذاك، ومدحه أهله قائلين: (محمود ود أحمد نَشّابة الضَلمة .. خَرّاب المتمة.. جاب رقيق قسّمة لبنات عمة). والغزو ليس بسبب تعاون (عبد الله ود سعد) مع الإنجليز، بل مع (الزبير باشا رحمة) الجعلي تاجر الرقيق المعروف والذي أعتقل الخليفة عبدالله التعايشي في وقت سابق بحكم أنه فكي(فقيه) ويكتب الحِجْـبَات (التمائم) للقبائل التي تتعرض للرق لكي ينجوا من قبضة الزبير باشا وإسترقاقهم، وكاد الزبير باشا أن يقتله، ولكن مستشاريه حذروه من ذلك.

إن الحساسيات والمجازر والإنتهاكات التي حدثت في (المتمة) أصبحت سبب لهذا التعميم والإختزال المخل كما ذكرنا. وفي هذا السجال المستمر بإسم العروبة والإسلام لأكثر من مائة وخمسين عام – سجال (الزبير باشا مع الخليفة التعايشي)، و(محمود ود أحمد مع عبدالله ود سعد)، و(البشير ونافع وكرتي والبرهان مع أسرة دقلو ومن معهم). لم يذكر أحد دور الشعوب الأصيلة التي سُمي السودان بإسمهم.

لاحظ الجنوبيين هذا السجال الذي يدور بإسم العروبة التي لا ناقة لهم فيها ولا جملٍ ودفعوا ثمن الإنفصال ورحلوا بكل هدوء وأسسوا دولتهم، والآن يستضيفون الفرقاء السياسيين السودانيين لحل مشاكلهم، ويستقبلون اللاجئين الفارين من ويلات الحروب رغم مشاكلهم الداخلية، ويقولون (السودان أمنا وأبونا لا تخربوه)، ولكن لا حياة لمن تنادي.

في ظل هذا الواقع، أين موقع بقية المكونات غير العربية في السودان من هذا السجال؟ وكيف نفضل (مهدية عبدالله التعايشي) على سودان يسع الجميع؟. ألم تكن مهدية (البشير ونافع) التى إستمرت ثلاثين عاماً أفظع من مهدية الخليفة التعايشي؟.

المطلوب الآن من بقية المكونات السودانية الإنتقال من خانة التابع والمتفرج إلى خانة صاحب حق والخروج من نفق هذه العروبة المتخيلة والمشكوك فيها من الجزيرة العربية نفسها.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.