التعددية القانونية لتحقيق حكم فيدرالي كامل

بقلم/ كموكي شالوكا (إدريس النور شالو)

السمة الأساسية التى ميّزت شعوب السودان وما زالت هى تنوّعها وتعددها فى التاريخ القديم والحاضر الراهن. فالسودان كما هو معلوم برقعته الجغرافية، كان وما يزال تسكنه شعوب ومجموعات مختلفة متنوعة ومتعددة عرقياً وثقافياً واثنياً و دينياً، ومتفاوتة تاريخاً ومتوزعة في أرجائه ونواحيه المختلفة، حيث ما زال جزء من هذه المجتمعات يعيش في بيئاته الطبيعية بطريقته عبر منظومات قيمه وأعرافه الخاصة.
ظلّ السودان يحكم مركزياً منذ عام 1821 وخلال الحكم الإستعماري، كان علي قمة إدارته الحاكم العام يعاونه ثلاثة سكرتيرين ، سكرتير إداري و مالي و قضائي، وكان السكرتير القضائي مسئولاً عن التشريع والقضاء و مصلحة الأراضي و تسجيلات الأراضي. وقد أعُتمد أيضاً نظام مركزي للسلطة القضائية ذات التسلل الهرمى الموحّد للمحاكم، حيث يكون على قمته المحكمة العليا ثم محاكم الإستئناف، والمحاكم الأعلي و تنتشر في القاع المحاكم الجزئية و محاكم المدن و الأرياف. إستمر الحكم المركزي بعد خروج المستعمر وأخيراً أعتمد الحكم الفيدرالي رغم علاته.
السودان مجتمع متعدد و متنوع الثقافات وتوجد به مجموعات متنوعة من الشعوب لها قوانينها العرفية المتنوعة ومؤسساتها القانونية التي تحكمها معايير عدة تتوافق مع الطبيعة التعددية للمجتمع، وهو ما جعل النظام الفيدرالى ملائماً لمثل هذه المجتمعات، لكن إقتصار الفيدرالية على السلطتين التنفيذية و التشريعية أخلّ بتوازن سلطات الدولة لعدم شمول الفيدرالية للسلطة القضائية. إن السعي الي هيكلة الدولة السودانية على أساس اللامركزية ينبغي أن ينعكس فى تصميم السلطة القضائية مثلها مثل السلطتين التنفيذية والتشريعية.
تميّز المجتمعات متعددة الثقافات بتعدد النظم والمعايير فيها تبعاً ادّى إلى ظهور ما أطلق عليه العلماء “التعددية القانونية” لأنها تفترض وجود مجموعات متعددة من المعايير ذات الأصول المختلفة داخل حدود الدولة. والتعددية القانونية هى إحدى سمات التنوع الثقافي لأن ما يؤدي إلى التعددية هو وجود مجموعة متعددة من القواعد العرفية أو الأنظمة المعيارية المضمنة في مجتمع متعدد الثقافات، فالتعددية القانونية سمة ضرورية للمجتمع الفيدرالي وتعكس صورة عن مجتمع متنوع عرقياً ودينياً وثقافياً و قانونيًا.
تشير التعددية القانونية أيضًا إلى المفهوم المعياري الذي يعترف بالمعايير الأخرى جنباً إلى جنب مع نظام القواعد الذي تفرضها الدولة. وفي المجتمع متعدد الثقافات ، يجب ألّا يعكس النظام القانوني التنوّع الموجود في المجتمع فحسب بل يجب أن يحمي أيضًا الحقوق والقيم الثقافية المميزة والمتباينة، وذلك يتطلب أن يعكس القانون والنظام القانوني القيم والمعايير المتنوعة في المجتمع، مما يؤدي إلى إنشاء نظام قانوني يستجيب للتنوع والتعدد و يجعل العدالة في متناول كل مجموعة ثقافية مميزة.
وقد عرّف “الدليل العملي لبناء الدساتير” الصادر من المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (IDEA) التعددية القانونية بأنها ” تعنى وجود نظم قانونية متعددة تحت دستور واحد، غالباً ما تأخذ شكل محاكم متعددة أو منفصلة أو إقليمية أو متخصصة”.
يتم تضمين التعددية القانونية عادة فى التصميم الدستورى للمجتمعات المنقسمة حيث تلتزم مجموعات مختلفة بأنظمة و قواعد قانونية متنافسة. ففى دول ما بعد الصراع على وجه التحديد، قد يشكل الاقرار الدستورى بتعدد مصادر القانون وهياكل تطبيقه حلاً جوهرياً للتوترات المجتمعية، وذلك بالسماح بدمج مصادر قانونية وانظمة محاكم متعددة ، بذلك تخلق فرصة للتنوع فى إقامة العدل، كما انها تتيح فرصة لتمكين الجماعات المضطهدة والفئات المهمشة بإضفاء الشرعية على القواعد وممارساتها الثقافية التقليدية والحفاظ عليها.
السلطة القضائية فى النظام المركزي تكون فيه المحاكم تحت سيطرة المحكمة العليا القومية ولا يتم تقسيم السلطة القضائية بين مستويات عديدة، بل يتم التعامل معها كسلطة واحدة لحل النزاعات القانونية مهما كان مصدر القانون والقضايا المطروحة واياً كان الاطراف.
أما الانظمة الفيدرالية التي تعترف بالتعددية القانونية فيتم تصميم القضاء حسب مستويات الحكومة. فتنقسم الي مستوى فيدرالي ومستوى الاقاليم أو الولايات وكل منها يتمتع بدرجة من الاستقلالية يحميها الدستور الفيدرالي. ويتم تقسيم السلطة القضائية بينهما، وتتعامل محاكم كل مستوى مع القضايا الناشئة بموجب تشريعاته الخاصة أو القضايا التي تشمل مسئؤوليها كأطراف، ويتم إحالة النزاعات التي تضم أطرافاً من ولايات وأقاليم مختلفة الى المحاكم الإتحادية.
الولايات المتحدة الأمريكية هى المثال الكلاسيكى لهذا النظام، فكل من الإتحاد ولكل ولاية تسلسل هرمي للمحاكم خاص بها تبلغ ذروته فى المحكمة الأعلي (Supreme Court) فى المستوى الإتحادي. تتعامل المحاكم الاتحادية مع القضايا التي يحددها الدستور بإعتبارها مسائل فيدرالية، أما محاكم الولايات فقمة النظام القضائي فيها هي المحكمة العليا (High Court) وتتعامل مع التشريعات والمسائل التي تدخل ضمن إختصاص الولاية.
الحكومة الإنتقالية السودانية التي تتفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لإيقاف الحرب وتحقيق السلام مطلوب منها التحلّي بالإرادة والشجاعة والتخلي عن إزدواجية المعايير وتبعيضها- بالقبول بلامركزية السلطة التنفيذية والتشريعية والإصرار علي مركزة السلطة القضائية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.