
التحالف أم التماهي؟ تفكيك خطاب التطابق والانتهازية الحقوقية في سياق تحالف “تأسيس: 2-1
خالد كودي، بوسطن، 24/ 3/ 2025
منذ إعلان الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال توقيعها على ميثاق “تأسيس” ودستورها الانتقالي، اهتزّت الأرض تحت أقدام النخب التي طالما احتكرت المشهد السياسي، وادّعت امتلاك أدوات التغيير، بينما ظلت في الواقع رهينة لمعادلات قديمة، أثبتت فشلها في وقف الحرب أو إنتاج سلام مستدام. تعددت ردود الفعل: بين من استوعب أن السودان قد بلغ لحظة انسداد تاريخي تتطلب اختراقًا جذريًا، فاختار الاصطفاف مع مشروع “تأسيس” بوصفه تعبيرًا عن وعي جديد، وبين من آثر الصمت، أو اكتفى بالتردد، أو رفض من منطلقات عقائدية أو مصلحية. غير أن أشد هذه الردود سلبية هو ما صدر عن دوائر امتهنت التشويش والاحتيال السياسي، وسعت لتقويض مواقف الحركة الشعبية عبر تشويه تحالفها مع قوات الدعم السريع، وتزييف أبعاد هذا التحالف وتبسيطه إلى مجرد “تواطؤ” أو “تماهي”، متجاهلة عمداً ما ينطوي عليه من محاولة تاريخية لإعادة هندسة المجال السياسي وبناء السودان الجديد على أسس العدالة التاريخية.
لقد عبّر هؤلاء عن قلقهم الوجودي، لا بسبب انتهاكات حقوق الإنسان كما يزعمون، بل نتيجة إدراكهم لاحتمالٍ حقيقي بأن مشروع “تأسيس” بات يهدد احتكارهم لمسارات الحل السياسي، ويعيد ترتيب الأوراق على نحو يُمزق الخطوط الحمراء التي رسموها لحماية امتيازاتهم ومصالحهم. هذا القلق يطال أطرافًا فاعلة مثل الجيش السوداني، وحكومة بورتسودان، وأذرعها الممتدة داخل الهامش، من تنظيمات مغلوب علي امرها تُستدعى وقت الحاجة، وتُكافأ بفتات الموائد، أو من حركات مسلّحة ارتضت أن تصطف إلى جانب الدولة التي همّشتها، واضطرتها إلى حمل السلاح أصلًا. هذه الحركات، التي تدّعي تمثيل قضايا الهامش، تقاتل اليوم جنبًا إلى جنب مع الجيش الذي لم يكتفِ بقتل وتشريد واغتصاب أهلهم، بل ظل يصنع المليشيات التي نفذت بحقهم كل صنوف الجرائم، في سلوك لا يمكن وصفه إلا بأنه قِمّة الانفصال الأخلاقي والسياسي، أو الغباء الإستراتيجي. يقاتلوا مع الجيش دون أي التزام منه انه لن ينقلب عليهم بنفس الاجندة في المستقبل القريب! وفي ظل هذا الواقع، حين تدخل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بصفتها صاحبة مشروع تاريخي للعدالة والتغيير الجذري – في تحالف يعيد تعريف شروط العمل السياسي على أسس أخلاقية جديدة، يصبح وجودها في حد ذاته تهديدًا وجوديًا لتلك النخب التي بنت نفوذها على الأكاذيب، والمساومات، وإعادة إنتاج أدوات القهر باسم الواقعية أو السيادة أو المصالح الوطنية.”
ومن هنا، بدأت حملة من الابتزاز السياسي الرخيص، تتخذ من ملف حقوق الإنسان غطاءً، بينما هي في جوهرها لا تُعنى بالضحايا، بل تستخدمهم وقودًا لتصفية حسابات نفعية. فصوّرت التحالف بين الحركة الشعبية وقوات الدعم السريع كأنه تفويض مطلق لتلك القوات، أو تنصل من المبادئ، متجاهلة التاريخ المعلن للحركة الشعبية، ومواقفها الصريحة في إدانة الانتهاكات، أيا كانت الجهة التي ترتكبها.
إن هذه الحملة ليست ناتجة عن خلافات مشروعة في الرؤى، بل عن مؤامرة ممنهجة تستهدف التشكيك في ريادة الحركة السياسية والأخلاقية، لأنها تمثل، في هذا المفصل التاريخي، المشروع الوحيد الذي يربط بين وقف الحرب، وبناء السلام، وتحقيق العدالة التاريخية، وتفكيك الدولة المركزية القمعية. وقد بلغت هذه المؤامرة حد نشر الأكاذيب والتزييف المتعمد للوقائع، بل والمزايدة على الضحايا أنفسهم، عبر الادعاء أن تموضع الحركة الشعبية في “تأسيس” يجعلها مسؤولة عن كل ما جرى ويجري من انتهاكات!. وهذا منطق مُفلس، يُسقط القواعد البديهية للمسؤولية الأخلاقية والسياسية، التي لا تحمّل جهةً مسؤولية أفعال طرف مستقل، لمجرد مشاركتهما في تحالف تحكمه وثيقة سياسية واضحة.
وكما قال المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي:
“You are responsible for the predictable consequences of your own actions — not for the predictable consequences of somebody else’s actions.”
إن تحالف “تأسيس” لا يمنح أحدًا الحصانة، بل يضع كل أطرافه أمام مسؤولية جماعية لإنتاج مشروع جديد، يخضع فيه الجميع، دون استثناء، لمبدأ المساءلة. أما من يخشى هذا المشروع، فهو لا يخشى الانتهاك، بل يخشى الحقيقة التي تفضح تورطه في صناعة الفشل، والتواطؤ، والصمت الانتقائي.
في هذا المقال، سنفضح هذا الخطاب الجاهل والمزيف الذي يتخفى خلف شعارات حقوق الإنسان، بينما هو في جوهره إنكار للعدالة، وعداء للتغيير الحقيقي.
التحالف والتطابق: تفكيك مفاهيمي في وجه الاحتيال الخطابي ضد الحركة الشعبية:
في خضم الحملة الشعواء التي استهدفت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال عقب توقيعها على ميثاق “تأسيس” ودستور السودان الجديد، برزت إحدى أكثر أدوات التشويش فاعليةً وتضليلاً: الاحتيال المفاهيمي الذي يُمارَس عبر خلط متعمد بين مفهومي “التحالف” و”التطابق/الاندماج”، في محاولة لنزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن الحركة، ووصمها بالتماهي مع كل ما يُنسب إلى الطرف الآخر – أي قوات الدعم السريع – من جرائم وانتهاكات. وهذه ليست زلة لسان أو سهوًا في التحليل، بل تلاعب خطابي ممنهج يخدم غرضًا سياسيًا واضحًا: تقويض مشروع السودان الجديد وشيطنة قواه الناشئة
من الضروري، إذًا، أن نُعيد الاعتبار للتفكير المفاهيمي الدقيق، لا من باب الأكاديمية المجردة، بل لأن التحليل النزيه يبدأ من وضوح المصطلح. فالتحالف السياسي، وفقًا للتقاليد النظرية والممارسة الواقعية، هو توافق غالبا مايكون يكون مرحلي بين أطراف مختلفة في مرجعياتها، لكنها تتقاطع في أهداف استراتيجية آنية. هو تقاطع وظيفي، وليس تماهياً أيديولوجياً أو قيمياً. في حين أن “التطابق/الاندماج” هو تماهٍ تام، يُلغي المسافة النقدية بين الأطراف، ويُنكر الاختلافات الجوهرية في المشروع والرؤية والموقع الأخلاقي.
الخلط المتعمد بين هذين المفهومين لا يُعبر عن جهل لغوي، بل عن نية سياسية مبيّتة تستهدف خنق أي مشروع تغييري عبر وصمه بالعمالة أو التواطؤ. وهو خطاب ذو جذور قديمة في السودان، استخدمته الأنظمة السلطوية مرارًا لتجريم الحركات الثورية، وتدجين المجال السياسي، وتحويل الضحية إلى متهم، والحقيقة إلى “رواية مشبوهة.
إن أي تحالف سياسي، بطبيعته، لا يعني اندماج الأطراف المتحالفة في كيان تنظيمي موحّد، ولا يقتضي بالضرورة تطابق آرائهم أو مواقفهم أو تاريخهم وبالتالي مسؤولياتهم. بل يقوم التحالف على اتفاق بين تنظيمات مستقلة، لكل منها رؤاها وأهدافها، يجتمعون مؤقتًا على تحقيق أهداف مشتركة محددة. وبانتهاء تحقيق هذه الأهداف، ينفضّ التحالف تلقائيًا، ما لم تتوافق تلك التنظيمات لاحقًا على قضايا جديدة تُعيد تأسيس أرضية مشتركة لتحالف جديد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.