تداعيات إعلان المجاعة في إقليمي جبال النوبة والفونج الجديدة – التزامات ومسؤوليات الأطراف السياسية والقانونية:

✍️ بروف/ خالد كودي

 

القاهرة، ١٤/ أغسطس ٢٠٢٤

مقدمة:
في خطوة تعكس حجم الأزمة الإنسانية المتفاقمة في السودان، بتاريخ ١٣ أغسطس ٢٠٢٤، أعلنت الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال عن المجاعة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها في إقليمي جبال النوبة والفونج الجديد. جاء هذا الإعلان في ظل حرب مدمرة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، التي أدت إلى نزوح مئات الآلاف من المدنيين إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية. هذه الحرب ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من السياسات القمعية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة في الخرطوم، والتي شملت تكوين الميليشيات لقمع ثورات الهامش، بما في ذلك قوات الدعم السريع التي مُنحت صلاحيات غير محدودة للوصول إلى ثروات البلاد بطرق غير شرعية. إن هذه السياسات والاختلاف حول السلطة والموارد هما ما قاد إلى تفاقم الأزمة الإنسانية والانفجار الحالي للأوضاع.

أسباب المجاعة في السودان:
أدت الحرب الدائرة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى تقلص المساحات المزروعة في السودان بنسبة 60%، مما أجبر أكثر من 80% من القوى العاملة في الزراعة على مغادرة مناطق الإنتاج، ليصبحوا نازحين ولاجئين. محصول الذرة، الذي يعتمد عليه معظم السكان، تأثر بشدة، حيث خرجت 70% من المساحات الصالحة للزراعة من دائرة الإنتاج، مما أدى إلى فقدان 72% من الإنتاج المتوقع.
تفاقمت الأزمة مع اتساع رقعة الحرب لتشمل معظم ولايات السودان، حيث توقفت 13 ولاية، منها ولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق والجزيرة والخرطوم وسنار، عن الإنتاج الزراعي.
انفجار الوضع الي المجاعة الحالية في عام 2024 يعود إلى فشل الموسم الزراعي، ونقص التقاوي والوقود وقطع الغيار نتيجة لإغلاق الطرق بسبب الحرب. إلى جانب ذلك، تفاقمت الأزمة بسبب انتشار الجراد، قلة الأمطار، تفشي وباء الحصبة في إقليم الفونج، والقصف الجوي في جبال النوبة والفونج.
وزادت الأمور سوءًا مع بيع حكومة بورتسودان حصة المناطق المتضررة من المساعدات الإنسانية، بحجة إغلاق الطرق. كما أدت تدفقات كبيرة من النازحين إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية – شمال إلى استهلاك المخزون الغذائي المحدود، مما عمق الأزمة الإنسانية في هذه المناطق.

التداعيات السياسية للإعلان:

١/ الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال:

المسؤولية والشجاعة في مواجهة الأزمة: في ظل نزوح أكثر من 115,000 نسمة إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية نتيجة للحرب، ازدادت التحديات الإنسانية بشكل كبير. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يعاني حوالي 3,000,000 شخص في المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة الشعبية في إقليمي جبال النوبة والفونج الجديدة من نقص حاد في الغذاء. أكثر من 20% من الأسر تعاني من نقص حاد في الغذاء، وتتجاوز نسبة سوء التغذية وسط الأطفال 30%. إعلان المجاعة من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال يعكس التزامها بمسؤولياتها تجاه المدنيين، ودعوة المجتمع الدولي للتحرك السريع لإنقاذ الأرواح والوفاء بالتزاماته بموجب المعاهدات والمواثيق الدولية.

– مسؤولية الحركة الشعبية: من خلال هذا الإعلان، تعزز الحركة الشعبية موقفها كقوة سياسية ناضجة مسؤولة، قادرة على حماية المدنيين وتلبية احتياجاتهم الأساسية في ظل ظروف شديدة التعقيد.

٢/ حكومة الأمر الواقع في بورتسودان:
الإخفاق في تحمل المسؤولية: في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمة الإنسانية، أظهرت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان عجزًا واضحًا عن توفير الأمن الغذائي والمساعدات الإنسانية. ووفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة التنسيقي للشؤون الإنسانية، فإن السودان يعاني من تدهور كارثي في الأمن الغذائي، حيث يواجه 25 مليون مواطن سوداني، من بينهم 14 مليون طفل، خطر الجوع الحاد. إن عجز حكومة اللجنة الأمنية لنظام عمر البشيرعن تلبية احتياجات المواطنين في هذه الظروف الحرجة يضعها في موقف ضعف ويعزز من مصداقية الانتقادات الموجهة لها.
الحكومة العسكرية في بورتسودان وانعدام الشرعية السياسية: الفشل في التصدي لكارثة المجاعة يؤدي إلى تآكل أي شرعية مصطنعة أو متخيلة لحكومة بورتسودان، حيث تظهر هذه الحكومة على حقيقتها ككيان غير مبالي، فاشل وغير قادر على الوفاء بالتزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه الشعب السوداني.

المسؤولية التاريخية للحكومات النخب المتعاقبة:
بالإضافة الي حكومة الامر الواقع في بورتسودان، تتحمل الحكومات المتعاقبة في الخرطوم مسؤولية تاريخية عن الأوضاع الكارثية الحالية التي يعيشها السودان. منذ الاستقلال، انتهجت النخب الحاكمة سياسات عنصرية وقمعية تجاه المناطق المهمشة، مما أدى إلى تهميش مؤسسي مستمر للمجتمعات في تلك المناطق على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وكذلك الثقافي. هذه السياسات التهميشية لم تكن مجرد إهمال عفوي، بل كانت جزءًا من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى تعزيز سيطرة المركز على الموارد وضمان هيمنة نخب معينة على حساب حقوق الأغلبية المهمشة.
تجلى هذا التهميش العنصري بشكل واضح من خلال تكوين الميليشيات المسلحة مثل “حرس الحدود” التي تحولت لاحقًا إلى “مليشيا المراحيل”، والتي تطورت بدورها إلى “قوات الدعم السريع” أو ما يعرف بـ”الجنجويد”. هذه القوات المسلحة كانت في البداية أداة قمعية بيد النظام لقمع ثورات الهامش، وإحكام السيطرة على الموارد الطبيعية في تلك المناطق. ولكن دورها لم يقتصر على قمع المواطنين في المناطق المهمشة فقط؛ فقد استخدمت لاحقًا لقمع المواطنين السلميين في مناطق سيطرة الحكومة المركزية، مما عزز من سلطتها ونفوذها على الصعيد الوطني في مناطق سيطرة الحكومة.
قوات الدعم السريع، التي أنشأها نظام عمر البشير في البداية كميليشيا غير رسمية، مُنحت فيما بعد صلاحيات واسعة مكنتها من الوصول إلى ثروات البلاد الطائلة بطرق استمدت الكثير من شرعيتها باجازة نفس من يحاربونها الان. ورغم سقوط نظام البشير، استمرت هذه القوات في لعب دور محوري في الساحة السياسية والعسكرية السودانية. أصبحت قوات الدعم السريع أداة قوية بيد السلطة الجديدة عقب سقوط الانقاذ، واستمرت في استخدام نفوذها لقمع المعارضة والسيطرة على الموارد.
ومع مرور الوقت، توسعت هذه القوات بشكل كبير، وتدربت بفضل الدعم والموارد التي قدمها لها الجيش السوداني النظامي نفسه. هذا التوسع في القوة والنفوذ أدى إلى تصاعد التوترات بين الجيش السوداني النظامي وقوات الدعم السريع، حيث تباينت مصالح الطرفين واشتد الصراع بينهما حول السيطرة على السلطة والموارد. هذا الاختلاف الجوهري بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع هو ما أدى في النهاية إلى اندلاع النزاع المسلح الحالي بينهما، وهو النزاع الذي تسبب في الكارثة الإنسانية التي يعاني منها كل مواطن سوداني اليوم.
هذه السياسات والتراكمات هي ما أوصل السودان إلى هذه النقطة الحرجة، حيث تواجه البلاد أزمات متعددة، من بينها المجاعة والنزوح القسري، وكلها نتائج مباشرة لسياسات الحكومات المتعاقبة التي تسببت في تأجيج الصراعات وإهمال حقوق الأغلبية.

الالتزامات والمسؤوليات القانونية:

١/ حكومة الأمر الواقع السودانية:
– التزامات حقوق الإنسان: بموجب القانون الدولي، تتحمل حكومة بورتسودان مسؤولية قانونية واضحة لتوفير الحماية والمساعدات الإنسانية لمواطنيها. الفشل في توفير هذه الاحتياجات الأساسية، خاصة في ظل الوضع الكارثي الحالي، يُعتبر انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان ويعرض الحكومة للمساءلة أمام المحاكم الدولية
– المساءلة الدولية: قد تواجه الحكومة السودانية إجراءات قانونية دولية إذا استمرت في تجاهل مسؤولياتها تجاه توفير المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين. تقاعس حكومة الأمر الواقع عن اتخاذ ما من شأنه وقف الحرب مع قوات الدعم السريع والإعلان الفوري عن المجاعة في الأراضي التي تتنازعها مع الدعم السريع يمثل جريمة أخلاقية تاريخية لا تغتفر
٢/ الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال:
– الامتثال للقانون الإنساني الدولي: على الرغم من الظروف الطبيعية الصعبة، وتزوح مئات الآلاف من مناطق النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي أربكت مخزون الغذاء الاستراتيجي في المناطق المحررة، تلتزم الحركة الشعبية بتحقيق متطلبات القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تسيطر عليها. فإعلان المجاعة في المناطق التي تسيطر عليها يعكس نضوج الحركة والتزامها بمسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه السكان المدنيين.
– المسؤولية القانونية: إعلان المجاعة من قبل الحركة يعزز من موقفها كجهة مسؤولة في الصراع، وبهذا الإعلان تكون قد التزمت بالقانون الدولي وبادرت بتنفيذه. إضافة إلى تاريخها في تبني موقف وجوب إيصال المساعدات الإنسانية لكل السودان، وإيجاد الطرق المتعددة لكي تصل المساعدات الإنسانية لكل المدنيين.

المسؤوليات الأخلاقية:

١/ المسؤولية الوطنية:
حكومة الأمر الواقع في بورتسودان: يتحتم على حكومة بورتسودان أن تتخذ خطوات فورية لتخفيف المعاناة عن المواطنين، بما في ذلك ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة. يجب أن تكون حياة المواطنين ورفاهيتهم في مقدمة الأولويات، وعدم القيام بذلك يمكن أن يعرض الحكومة لانتقادات حادة من الداخل والخارج

٢/ المسؤولية الدولية:
– المجتمع الدولي: يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية أخلاقية كبيرة تجاه هذه الأزمة. فوفقًا لمعايير الأمم المتحدة، تتطلب حالة المجاعة تدخلًا فوريًا لمنع وفاة ملايين الأشخاص. المجتمع الدولي، بما في ذلك المنظمات الدولية والدول الكبرى، مطالب بتقديم المساعدة الإنسانية العاجلة وإنقاذ حياة المدنيين في المناطق المتضررة.

خاتمة:

يمثل إعلان المجاعة من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال خطوة حاسمة ومسؤولة في مواجهة أزمة إنسانية متفاقمة، كارثة تعد نتيجة حتمية لسياسات الحكومات السودانية المتعاقبة التي أسهمت في تكوين الميليشيات وتهميش ملايين المواطنين. في المقابل، يعكس واقع المجاعة الي دفع بالحركة الشعبية لتحرير السودان الي اعلان المجاعة الفشل الذريع لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان في تحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية. إن الأزمة الحالية تتطلب استجابة سريعة وشاملة من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك حكومة الامر الواقع في العسكرية، الحركات المسلحة، والمجتمع الدولي، لضمان حماية المدنيين وتقديم الدعم الإنساني اللازم لإنقاذ حياتهم.
وفي نفس الوقت، يدعو هذا الوضع كل سوداني إلى التفكير العميق في بنية الدولة السودانية منذ الاستقلال وفي طبيعة جذور المشكلة التي أدت إلى عدم الاستقرار واشتعال الحروب. ولعل واقع المجاعة يدفع الجميع إلى العمل الجاد والصادق علي تسمية ومعالجة جذور الأزمة السودانية التي تتعدى ما تحاول النخب السياسية تكراره منذ الاستقلال، حيث تناور بتكرار نفس السياسات بهدف الحفاظ على مصالحها في دولة مبنية على أسس عنصرية تفضل فئة من المواطنين على غيرهم بناءً على دينهم أو إثنيتهم أو ثقافتهم أو جهتهم. هذه الأزمة تتطلب معالجة جذرية وشاملة، من أجل بناء سودان موحد ومستقر وخالٍ من المجاعات التي هي من صنع الإنسان.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.