إلى ملهم الشباب “ديرك أويا ألفريد” الموسوعة الثقافية الاستثنائية لجنوب السودان، في ذكرى وفاته الثالثة

أنس عبدالصمد

 

في محاولة الولوج إلى دهاليز هذا العلم، الرجل الموسوعة الثقافية نحتاج أن نخوض هذه المغامرة باجتراح شطر من الشجاعة، واجتراع جرعة من الجرأة، تثمل اليراع والمخيلة للحظات لنعيد توليد فكرة الكتابة الموجودة أصلا، لكن الكتابة هنا عن رمز من رموز هذه الأرض، رجل عُجِنَ دَمُهُ بطمي هذا النيل وكثبان هذه الوديان، وطين هذه السافنا، أدمن هذه البلاد عشقًا فكانت ليلاه التي تغنى بها وتفنن في التفاني من أجلها، ناضل ليحررها من قبضة المتسلطين، فانبرت لهم وتقيأتهم أوساخًا من الساسة والانتهازيين حتى أتته وفي كفها راية الحرية، وفي فمها كلمة النصر وفي جبينها الإخلاص والولاء والانحياز لنقاء السمرة التي انتسب إليها.

هذا رجل جدير بنعته بصفة “العظيم” بما يستحقه العظماء القلة في الحياة حيث تلاحق أسماءهم هذه الصفات لما فعلوا من إنجازات استعصت على غيرهم بمضاعفة الفرص المتاحة.

إنه ديرك أويا ألفريد.. أيقونة جنوب السودان الثقافية.

 

عام ميلاده:

تاريخ ميلاد ديرك كان عام سعادة في الكون أجمع وتاريخ رحيله كان عام حزن على وطنه الكبير السودان، فميلاده في مطلع العام 1962م يمثل حدثًا استثنائيا في قرارة العام نفسه، ولعظمة هذا العام الذي أنجبت فيه أمهات الإنسانية في كل بقعة من كوكب الأرض علمًا ورمزًا حفر اسمه بحروف من ألق في حياتنا، كيف لا ومن جيله الذي شاركه الميلاد في هذا العام على سبيل المثال لا الحصر هؤلاء العمالقة في شتى مجالات الإبداع، مساهمين في الحياة الإنسانية كُلٌّ حسب مهنته، وتزين عالمنا بإنجازاتهم الثرة، أتذكرون نجم الكرة الهولندية لاعبًا ومدربًا، النجم فرانك ريكارد الذي صال وجال في الميادين الخضراء للأندية العملاقة ميلان، أياكس، برشلونة، وغيرها، أم هناك من مرّ منكم على سحر شاشات سينما هوليوود ولم تجذبه كاريزما النجم توم كروز المنتج والممثل الأمريكي الشهير، ولعل المولعون بالقراءة يعلمون من هو ساحر الحرف الذي نسج خيوط خياله ليغزل لنا رواية “ترمي بشرر” إنه الكاتب السعودي عبده خال، ويعرفون جيداً عشق عدد من الجمهور المثقف لروايات الطبيب المصري الخلوق أحمد خالد توفيق، أما إذا عدنا إلى عالم المستديرة فمن منا لم تطربه موسيقى التعليق الرياضي بحنجرة الساحر التونسي رؤوف خليف، وفي عالم الغناء فراغب علامة مطرب لبنان لابد أنه لامس إحساس جيل منا في فترة ما، أو قد طربت ذات مرة للمطرب الكويتي نبيل شعيل، كم استهوتك وآثرتك أفلام النجمة المصرية ليلى علوي؟ .

قد ينخر مخلب الحيرة رأسك وأنت تتسائل ما علاقة هؤلاء العمالقة بموضوعنا؟.

سأجيبك ببساطة ليس لشيء سوى لأنهم جيل ولد في العام الذي ولد فيه ديرك وهو عام العظماء، عام النجوم، عام المبدعين، هؤلاء هم جيل ديرك ألفريد، لذا لا عجب أن يصير الرجل شعلة متقدة في شتى ضروب الإبداع.

 

مشروعه الثقافي:

لقد رأى المبدع أويا أن بلاده إن أرادت أن تنهض لتصطف مكاتفة دول العالم، فهناك وسيلة لا غنى عنها لتحقيق هذا الحلم، هذه الوسيلة تمثلت في بناء مشروع ثقافي وطني تكون فيه الركائز الأساسية لبناء الدولة هي المداميك الثقافية، والتي عن طريقها يمكن تحقيق المصالحة وتعزيز الوحدة بين كيانات المجتمع وبناء أمة مثقفة واعية ومتعلمة ومدركة لقيمها وموروثها، وفخورة بتاريخها، وتنوعها الثقافي، وتراثها الإنساني، وإرثها الاجتماعي، والمعرفي، والثقافي.

وفقًا لسيرته الذاتية المكتظة بالإنجازات فإن ديريك أويا ألفريد الذي عرف في أوساط المثقفين بلقب أويا، هو ابن للسيد ألفريد بانقو أوجانق، والسيدة دومينيكا دانيال نقور، حجز موقعه مولودًا رابعًا في ترتيب سلم مواليد الأسرة الذين بلغ عددهم ال14 فردًا من البنين والبنات،

سليل أسرة من مجموعة بلندا – فيري (ديم زبير) بولاية غرب بحر الغزال،ولد بـ(حلة فحل) بمدينة واو في مطلع يناير من العام 1962م، تزوج من السيدة حنان أمين أرنو.

 

أكاديميًا:

تحصل على العديد من الشهادات الجامعية في دراساته العليا منها

ماجستير الدراسات الإنسانية جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا – السودان-الخرطوم (2017-2019)

دبلوم الدراسات العليا في الدراسات الإنسانية (الدرجة الثانية العليا) كلية الدراسات العليا جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا (1996-1997).

بكالوريوس الدراما و المسرح، تخصص تمثيل وإخراج ، من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا (1989-1994)

مراحل دراسته:

أما في مراحل دراسته الأولية فكانت بمدرسة مدرسة قوقريال الابتدائية (ولاية واراب) ثم واو الابتدائية، ولاية غرب بحر الغزال –(1968-1974)

ثم مدرسة بسري المتوسطة ولاية غرب بحر الغزال ، واو (1974-1977)

ثم مدرسة بسري الثانوية ، ولاية غرب بحر الغزال ، واو (1977-1980)

حياته العملية:

بعد حصاده المعرفي الثر عاد الأستاذ ديرك أويا ألفريد ليدفع لوطنه الصغيرة جزءً من ضريبة أخلاقية تشربها منه فعمل أستاذًا بمدرسة واو المتوسطة في الفترة من (1980-1981)، ثم انتقل للعاصمة السودانية الخرطوم حيث استمر في مجال التدريس ليعمل مدرسًا للغة الإنجليزية خلال الفترة من (1989-1991) ، وقد كان ذلك خلال فترة دراسته الجامعية ، كما عمل مدرسًا مساعدا في “الاتصال الرعوى) ، بمعهد الدراسات اللاهوتية المعروف بالقديس بولس بضاحية كوبر بالخرطوم في الفترة من (1996-1999).

التأثير الفني:

برز تأثيره فنيًا للساحة الثقافية عندما

أسس مع مجموعة من طلاب معهد الموسيقي و المسرح من بينهم قاسم أبو زيد ، السماني لوال، يحي فضل الله ، جماعة السديم المسرحية في ثمانينات القرن المنصرم .

كما كان أحد مؤسسي مجموعة (دانجي) الموسيقية بالعاصمة السودانية الخرطوم رفقة عدد من الفنانين، حيث كان عازف الجيتار الرئيسي للفرقة التي اشتهرت باعمالها خلال الأعوام 1989-1991.

وعيه كمثقف:

تبلور وعي ديرك الفريد كمثقف جنوبي يحمل هم وطنه حيث قام رفقة الأستاذ السماني لوال و استيفن افير اوشلا بتأسيس مجموعة فنية جنوبية تهتم بالرقص و المسرح والتعريف بالثقافات السودانية في المناطق السودانية المهمشة ، عرفت في بداياتها باسم (مسرح كوتو الأهلي) في العام 1994، لتتحول فيما بعد إلى (مجموعة كوتو للمسرح والرقص الاستعراضي) وقامت بنشاطات مشهودة في العاصمة السودانية الخرطوم حتى استقلال دولة جنوب السودان في العام 2011م.

فترة توليه وزيرًا للثقافة:

بعد استقلال دولة جنوب السودان ، تقلد الأستاذ ديرك الفريد منصب وزير الثقافة بولاية غرب بحر الغزال ، لتشهد فترة توليه دولاب العمل في الوزارة نشاطاً ثقافيا، فكرياً، فنيًا، غير مسبوق، بإنجازه لعدد من المشروعات الثقافية والفنية بالولاية، مثل مهرجان واو الثقافي في نسخته الأولى التي انطلقت في مطلع العام (2013)، وكان يخطط لتحويل المهرجان في نسخته الثانية إلى فعالية قومية.

أوسمة وجوائز:

حصل ألفريد على أوسمة عديدة وجوائز في مجالات إبداعية شتى يضيق عنها المقال، فهو الذي حصد جوائز التمثيل المسرحي والكتابة المسرحية والعزف الموسيقي والتمثيل الدرامي، كما شارك في مهرجانات إفريقية وعالمية ممثلا لبلده السودان الكبير وجنوب السودان بعد استقلاله، حيث بلغت الدول التي زارها مشاركا في ورش ومهرجانات وأوراق عمل في مجالات ثقافية متعددة حوالي ال19 دولة حول العالم.

اِلتفاتة عن أولى مشاركة خارجية له بعد استقلال دولة جنوب السودان متمثلة في المسرح حيث شارك الأستاذ ديرك في العام 2011 رفقة الأستاذ جوزيف أبوك ومجموعة فرقة جنوب السودان للمسرح في إخراج مسرحية الكاتب الإنجليزي المعروف وليم شكسبير الموسومة ب(سمبلين) و التي تم تقديمها كأول مشاركة مسرحية لدولة جنوب السودان في مهرجان (غلوب) المسرحي ، مما لفت نظر المسرحيين عالمياً إلى تجربة جديدة حديثة من دولة حديثة لاقت المسرحية استحسانا كبيرا حيث قُدِّمَتْ بعربي جوبا.

 

رحيل وذكرى:

 

غمامة سوداء أسدلت ستارها على الساحة الثقافية في جنوب السودان برحيل رمز من رموز الثقافة الجنوب سودانية، في 19 أكتوبر من العام 2021، العام المشؤوم الذي شهد انقلابًا عسكرياً على السلطة في الخرطوم عاصمة جمهورية السودان كان رحيل الأستاذ الفنان ديرك أويا ألفريد بذات المدينة التي جرحت في ذات الشهر جرحان، الأول برحيل ديرك في حضنها والثاني في ذات أسبوع الرحيل المر بإعلان حالة الطوارئ في اليوم الخامس والعشرين من أكتوبر بتقويض سلطة الحكومة الانتقالية وإبدالها بحكومة انقلابية، رحم الله ديرك ألفريد بقدر ما قدم من عطاء لهذه البلاد الواسعة.

بعد وفاته التي فجعت بها أوساط المثقفين والشباب قرر عدد من المهتمين بالشأن الثقافي تكريم ديرك وتخليدا لذكراه تم تأسيس مهرجان ديرك الثقافي وهو فعالية ثقافية سنوية شاملة تهدف لتخليد ذكرى الأستاذ ديرك أويا الفريد، الذي فارق الدنيا بعد مشوار حافل بالعطاء في شتى ميادين العمل الثقافي في السودان وجنوب السودان.

 

لعله أمر أقرب إلى السذاجة من المنطق إن أردنا أن نحصر مآثر وإنجازات الأستاذ ديرك أويا ألفريد في مقال واحد وإنما الرجل جدير ببحوث عدة ومؤلفات وكتب ومسرحيات ومعزوفات موسيقية، وأعمال درامية لتحاول أن تحيط بتركته العظيمة في حقول الثقافة المتعددة وتوفيه حقه، وإنما نحن نضع إشارات تجعل هذا الرمز الثقافي في مكانه الحقيقي في بؤرة الضوء التي صبغ شمعها ونسج خيطها وأشعل نورها بتفانيه وخدمته لحقل الثقافة في جنوب السودان بصفة خاصة وفي السودان القديم بصورة أشمل.

أنس عبدالصمد

جوبا 17/أكتوبر2023.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.