
أين مصلحة الشعب السوداني ؟
سعيد تاور،
بالرغم من انقضاء تسعة وستين عام من استقلال السودان، لا تزال البلاد في مرحلة تحول وتحور، لأن النخبة المدنية التي ورثت السلطة من الانجليز وكذلك مؤسسة الجيش التي اغتصبت السلطة لأكثر من خمسين عام، و ظلت تعمل بعقلية قوة دفاع السودان التي أنشأها الاستعمار، لم تفلح في وضع رؤية استراتيجية لبناء وطن للجميع.
إن النظرة الفاحصة لحرب ١٥ أبريل تبين بجلاء أنها نتيجة حتمية لما زرعته القوى السياسية التي لازالت تتسلط علي حكم السودان منذ استقلاله، فقد استنجدت الاحزاب الطائفية والأيديولوجية بالجيش لسرقة السلطة، واستمرا جنرالات الجيش جلوسهم الطويل علي كرسي الحكم، فزاد ذلك من شهوتهم و طموحهم في الحفاظ على امتيازاتهم بكل الوسائل.
لم تكن قوات الدعم السريع، المليشيا الوحيدة التي انجبتها رحم المركز، ففي ذاكرة الشعب السوداني العديد من المليشيات التي استخدمتها حكومات الخرطوم في حرب جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الازرق ودارفور، و تواصل حكومة البرهان السير في نفس هذا الطريق المظلم، بل تفتحت قريحتها عن إنتاج العديد من المليشيات القبلية والجهوية في مختلف أرجاء السودان لتأمين رغبتها في الحفاظ على الكراسي الوثيرة، ولو على جماجم الشعب السوداني.
لقد تعب الشعب السوداني من هذه الحروب الطويلة التي ضيعت آمال أجيال كثيرة، ولذلك من الضروري أن ترتفع الأصوات التي تنادي بوقف هذه الحرب المدمرة، ولكن لا نعجب أن يقف المستفيدون من الحرب في الجانب الآخر من النهر، يملأون الارض ضجيجا بالعبارات والشعارات الفارغة كحرب الكرامة وغيرها، ولكنهم يعنون كرامتهم هم وليس كرامة الشعب السوداني، فلولا الحرب لما انتهكت كرامة الشعب السودانى و لما حدث القتل والسلب والاغتصاب والجوع والمرض والتدمير الكامل لمرافق البلاد، فعلي من يطلب الكرامة أن يوقف الحرب التي يدفع الشعب تكلفتها الغالية.
بالرغم من اتساع الحرب، إلا أن تأثيرها ليس متساويا لدي كل الناس، فمن الناس من عاني ويلات الحرب لعشرات السنين، في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، ومنهم من ذاق لهيبها قبل عامين فقط، ولذلك فإنهم يختلفون في درجة استجابتهم لدعاة الحرب أو السلام.
إن من طبيعة البشر أن تكون المصالح الشخصية هي أولى الدوافع التي تؤثر في سلوك الأفراد واستجابتهم للأحداث، خاصة عندما يكون وجودهم مستهدفا، ولكن الدوافع الذاتية قد تعمي الأبصار عن المصالح الاستراتيجية للمجتمع ككل.
قليل من الناس يختلف في تورط الدعم السريع والجيش معا في ارتكاب المجازر والانتهاكات الجسيمة ضد حقوق الإنسان، ولا معنى ان يقول البعض أن الدعم السريع أوالجيش قد ارتكب جرائم أكثر من الطرف الآخر، فحياة الإنسان لا تقاس بالاكثرية والاقلية، فكل روح تزهق خسارة باهظة وفقد أليم.
ان استمرار هذه الحرب سيخلق المزيد من الجرائم، ولذلك فإن من مصلحة الشعب السوداني أن تقف هذه الحرب في أسرع وقت ممكن، لحقن الدماء وحفظ وحدة السودان وما تبقى من موارده التي استنزفتها الحرب.
اعتقد ان الحراك الذي بدأ في نيروبي، هو أول الغيث لإنقاذ السودان، فالبيانات والإدانات التي ظلت تصدرها القوي السياسية المناهضة للحرب، وكذلك المجتمع الإقليمي والدولي لم تفلح في إقناع البرهان والمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، أو ردعها عن مواصلة الحرب، فمصالحها تمنعها عن سماع صوت الحق، ولذلك فإن التحالف المزمع انشاؤه من خلال ميثاق السودان التأسيسي، سيكون أداة قوية لردع دعاة الحرب.
من المبكر أن يحكم المرء على تجربة في طور المخاض، ولكن النتائج تنتجها الأفعال وليس الأمنيات والأحلام، وعلي الشعب السوداني أن يجرب وسائل أخري أكثر فاعلية لإطفاء هذا الحريق، فقد فشلت المعارضة اللفظية، لأن قوي الظلام لا تأبه للمحاكمات الاخلاقية، ولا تردعها الا القوة، وتكون قوة الشعب في توسيع قاعدة العاملين لوقف الحرب، و استخدام كل وسائل النضال المتاحة لتحقيق الهدف.
لقد تسرع البعض في إصدار الأحكام على ما يحدث في نيروبي، فوصفوه بمحاولة تقسيم السودان، وتناسوا أن دعاة دولة البحر النهر ظلوا ينادون علنا بتقسيم السودان، وتناسوا أن حكومة بورتسودان قد قسمت السودان بالفعل عندما حرمت آلاف الأطفال من الجلوس لامتحان الشهادة السودانية، وحرمت بعض المواطنين من الوثائق الثبوتية على أسس عرقية وجهوية، واستغلت سيطرتها على البنوك لتهضم حقوق الناس في التعامل بعملة موحدة، وهم مواطنون في نفس الدولة. ماذا يعني كل ذلك أن لم يعن تقسيم السودان؟
يتطلب الوقت، إعمال العقل لا العاطفة، ففي مثل هذه الظروف التي يمر بها السودان تكون مصلحة المجتمع فوق المصلحة الذاتية للفرد. علينا أن ندعم كل جهد يمكن ان يوقف هذه الحرب، فلن تقف هذه الحرب بالامنيات فقط، لأن الحركة الإسلامية وواجهتها المؤتمر الوطني تحشد كل قواها لتغذية جذوتها، فخطابات البرهان و ياسر العطا، خير دليل.
ان السياسة لا تألف الركون و التجمد في موقف واحد رغم تغير الظروف. ستشهد الساحات تكون تحالفات جديدة و تفرق أخرى، ومن الممكن أن يصير أعداء الامس أصدقاء، وأن تقع العداوة بين أصدقاء اليوم، هذه سنن الله في الكون.
سيكتب التاريخ ان الشعب السوداني قد تجاوز محنته بالتجرد من الأنانية والمصالح الذاتية، فلن يسلم أحد من ركاب هذه السفينة التي تغرق، ما لم يتعاون الكل على وقف الكارثة.
سعيد تاور،
٢٣ فبراير، ٢٠٢٥
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.