أوتار مالى (٢ – ٢)

 

الدكتور قندول إبراهيم قندول
[email protected]

في الجزء الأول كتبنا عن فناني مالي الذين أسروا مسامعنا منذ ١٩٨٩م.  في هذا الجزء نتعرَّض ما توسعت به مكتبتنا بالغناء المالي فيما لتشمل في رفوفها “أفيل بوكوم”، و”بوبكر تراوري”، الملقَّب ب “كاركار”، و”ساليف كويتا” الملقَّب أيضاً بالصوت الذهبي، و”فاتوماتا دياوارا”، و”توماني دياباتي”، و”فيو علي فركة”، و”حبيب كويتي”، وغيرهم من عظماء الموسيقى الماليَّة. سنتناول كل واحد منهم باختصار شديد.  “أفيل بوكوم” هو ابن أخت “علي فركة” وقد عمل معه في فرقته المسماة ب “أسكو” لمدة ٣٠ عاماً، ولكنه شكَّل فرقة موسيقيَّة خاصة به من الموسيقيين المحليين. يصفه “علي فركة” ويظهر فخره بالقول: “إنَّه رجلاً طموحاً سيساهم في تطوير الفن والثقافة وتاريخ مالي”.  بجانب التمتُّع بسمعة طيبة بسبب موسيقاه، إلا أنَّ “أفيل” كان مستشاراً زراعيَّاً وله ارتباط قوي بالأرض، وترتبط أغانيه بالمجتمع المالي. ويعتقد “بوكوم” أن الموسيقى هي أقوى وسيلة لمعالجة المشاكل المتنامية في مالي، البلد الذي كان يفتقد الكثير من وسائل الترفيه والتواصل، وأنَّها هي أفضل طريقة لإيصال الرسالة.  تحمل فرقته وأول ألبومه نفس الاسم: “رسول النهر العظيم”.  فمثل “علي فركة” أصدر “أفيل بوكوم” عدداً من الألبومات والأغنيات الجميلة منها على سبيل المثال: “ليندي”، و”ألكيبار”.  ومن الأغنيات التي يظهر فيها نوعاً من روح الشباب أغنيته بعنوان “تينكي هييري”.
ثم يأتي الحديث عن “بوبكر تراوري كاركار”، و”كاركار” لقب كروي وسمه به أصحابه لكثرة المراوغة أثناء اللعب بكرة القدم.  الكلام عن الجوهرة السوداء، كما يسميه البعض، “كاركار” يحمل في طياته مآسي كثيرة، غير أنَّه من الأفضل القول بإنَّ “بوبكر” قلب موازين المأساة إلى السعادة في آخر عمره.  فقد لمع نجمه في أواخر ستينيات القرن العشرين ثم أفل، ولم يتم اكتشافه بعد ذلك إلا عام ١٩٨٧م في قريته.  ولظروف قاهرة بعد وفاة زوجته تاركة ورائها سبعة أطفال، هاجر “كاركار” إلى باريس التي ذاق فيها مرارات الغربة والاغتراب ولم يكن أمامه إلا أن يشتغل كعامل بناء ليعول أبناءه.  ثم جاء الاكتشاف الكبير له بواسطة منتج إنجليزي فتغيَّرت حياته إلى الأفضل وإلى الأبد إذ صار يعبِّر عن أحزانه وأفراحه في الأغنية الرصينة تأليفاً ولحناً.  ساعدته في ذلك دقته في نظم كلماته، ونضوج صوته الفريد المتماشي والمتناسق مع عبارات الحنين في الشعر. فبين ١٩٩٠-٢٠٠٥م أنتج “بوبكر” ثماني ألبومات، و٣ أخريات بين ٢٠١١-٢٠١٧م ويعتبر ذلك رقماً قياسيَّاً.  ومن تلك الألبومات: “مريما”، و”كاركار”، و”سأغني لك”، و”الجفاف” و”أطفال” إلخ… ولإيقاع أغنية “بابا دراميه” وقع عميق في النفس.
الفنان الموسيقار “ساليف كويتا” أو “الصوت الذهبي” ينتمي إلى الأسرة المالكة في مالي سابقاً.  لقد عانى “ساليف” في حياته الأولى نتيجة لإصابته بالبرص فطردته عائلته، ونبذه المجتمع لأنَّ البرص ليس معيباً ومصدر الشر فقط، بل علامة لسوء الحظ في ثقافة ذلك المجتمع.  لم يكن أمام “ساليف كويتا” إلا السعي وراء امتهان مهنة الموسيقى والغناء الذي يعتبر من المحظورات لأفراد النبلاء مثل “ساليف كويتا” الأمر الذي زاد الشقة بينه وبين أسرته ومجتمعه.  على أية حال، جال “ساليف كويتا” بين مسقط رأسه “جوليبا” إلى العاصمة المالية “بماكو”، وخارج مالي إلى “أبيدجان” بساحل العاج، ثم باريس بفرنسا.  حصل على الاعتراف الدولي في سبعينيات القرن الماضي وتوسَّع نشاطه الفني وأصبح من أشهر المشاهير في غرب أفريقيا.  له العديد من التسجيلات الغنائيَّة.
ومن الفنانات الماليات اللائي أسرن مسامعنا، الفنانة “فاتوماتا دياوارا” التي ولدت في ساحل العاج لأبوين ماليين اللذان انتقلا فيما بعد لموطنهما مالي.  اشتهر غناؤها بالصوت الحسي الذي تعمَّد أغاني النصيحة التي تناولت فيها كفاح المرأة الأفريقيَّة وأشهر أغنيتها في هذا الجانب من الحياة، وفي ظل حكم الأصوليين الدينيين وممارسة ختان الإناث، هي أغنية “مُوصو”، تليها أغنية “مالي كو” التي تحث فيها على الوحدة وتهدئة الاستياء الذي خيَّم على شعب مالي من أفعال أقلية الطوارق التي يلقي البعض عليها اللوم فيما يحدث في شمال مالي من تحريض لهذه الأقلية للتوغل للاستيلاء على السلطة بالقوة. وقد قالت “فاتوماتا” في الأغنية إياها إنَّها بحاجة للصراخ ب: “استيقظ! نحن نخسر مالي! نحن نفقد ثقافتنا، وتقاليدنا وأصولنا وجذورنا”!
يأتي ابن “علي إبراهيم فركة توري” المسمى ب “فيو” ضمن الذين يعجبني وسيعجبك غناؤه على المستويين: المستوى الذي يحرِّض على الرقص غير الصاخب، والمستوى الهادئ الذي يريح الدماغ ويعالج الاضطراب الذهني ويشد الإنسان إلى التفكير والانتباه.  وكما يقول المثل لا تقع الثمار بعيدة من الشجرة، فقد أخذ “فركة الابن” خطوات والده في الغناء والعزف على الجيتار بطريقة ساحرة مبهرة، ربما قد تفوَّق على والده!  لقد عارض “علي فركة” الطريق الموسيقى التي سلكها ابنه، إلا أنَّ “فيو” انضم سراً لمعهد موسيقي في المدينة ليفاجئ والده بما كان يرفضه.  بالتأكيد لو عاش “علي فركة” إلى اليوم لكان أكثر فخراً بابنه الذي وصل إلى القمة بأدائه الفني.  أصدر “فيو” وحده تسع ألبومات واثنين مع “راشيل”. ومن أجمل أغانيه تلك التي يرثي فيها والده بعنوان “فافا”. رغم عدم فهن للغة وكلمات الأغنية إلا أنَّها من أكثر أغنياته المحببة إلينا واستطيع الاستماع إليها طول اليوم.  أخيراً وليس آخراً، نتناول الفنان “حبيب كُويتي” الذي يتميَّز أسلوبه بالسلم الخماسي الذي يعتمد على اللعب على أوتار مفتوحة، كما يصفها الموسيقيون.  أما صوته فحميمي ومريح للغاية ويؤكِّد على الغناء الهادئ والمزاجي بدلاً من البراعة الفنيَّة الأوبراليَّة.  يقوم “حبيب” بتأليف وترتيب جميع أغانيه، ويغنيها باللغات الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والبامبارا، لغة دولة مالي الوطنيَّة.  ومن ألبوماته: “موسو كو”، و”ما يا”، و”بارو”، و”أفريكي”، وأجمل الإيقاع في أغنية “آي كا باررا”.
أما بعد، عند الاستماع والاستمتاع بأنغام “أوتار مالي” يغلب علينا في كثير من الوقت الترديد والترنيم والهمهمة كأنَّنا نفهم ما يتغنى به أولئك الفنانون الغنائيون.  وعندما يسألنا سائل عن زئيرنا من الصدر كالأسد، نجيب: “أنَّنا ذاهبون إلى مالي دون عفش أو تأشيرة لأنَّ جواز سفرنا وتأشيرتنا إليها هو ارتباطنا الوجداني بما يشع به فضاء إفريقيا من حبال أصوات مغنيها الأفذاذ”.

تعليق 1
  1. Mark يقول

    Thanks for your blog, nice to read. Do not stop.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.