أوتار مالى (١ – ٢)
الدكتور قندول إبراهيم قندول
كثيراً ما يلجأ الناس في الأوقات الصعبة والعصيبة إلى محفزات للقيام بأعمالهم وإنجاز مهامهم. وقد تختلف تلك المحفزات من شخص لآخر ولطبيعة العمل المراد القيام به. فبعض الناس يعتصمون بالاستماع إلى الموسيقى التي تَبُثُ الهِمَّة، وترفع الروحَ المعنوية وتذكي العقل وتنشطه، بغض النظر عن مصدرها وأصلها، والأنغام الموسيقيَّة التي تريح النفس والبال وتهدئ الأعصاب وتزيد من درجة التفكير. بيد أنَّ الاختيار يعتمد على المزاج والذوق اللذين تبعثهما تلك النغمة في النفس. بالنسبة لي، لعلَّ الموسيقى الأفريقيَّة الماليَّة (نسبة لدولة مالي) لهي من أكثر الموسيقى التي استمع إليها واستمتع بها حين أعكف على الكتابة. ويرجع فضل تذوُّقي لموسيقى مالي إلى إخوة وزملاء دراسة سابقين لي من دولة مالي بجامعة نبراسكا-لينكولن، أذكر منهم الأخ “كريم تراوري”، و”مينامبا بقايوقو” اللذان سبقاني بفترة دراسية واحدة. أما “عبد الوهاب توري” و”سيدي بكاي كلوبالي”، و”ديوني”، فكنت أسبقهم بفترة دراسية واحدة أيضاً. توطدَّت العلاقة الأخويَّة بيننا وما كنا نفترق أبداً، لدرجة أنَّنا كنا نسجِّل لنفس المواد الدراسيَّة.
كما كنا نستمع سويَّاً لمشاهير مغنيهم مثل ملك الجاز “علي إبراهيم فركة توري”. حقيقة كان كثيرٌ من الذين التقي بهم من مالي يظنون أنَّني منهم لدرجة أنَّهم يلقوني علي التحية بلغتهم الوطنيَّة “بامبارا”، خاصة الباحثين الزراعيين ورؤساء زملائي الزائرين للجامعة من مالي. و”فركة” لقب وتعني “حمار” (سنبيِّن سبب هذا اللَّقب لاحقاً)، والفنانة “أمي كويتا”، والمغنية “أومو سانغاري”. فقد أهدى لي صديقي “كريم تراوري” أشرطة كاسيت لثلاثتهم فكنت استمع لهم يوميَّاً وباستمرار. هكذا ارتبطت بهم وبموسيقاهم وجدانيَّاً. في هذا المقال سنتطرَّق لهؤلاء وللذين شملتهم اهتماماتي التذويقية لموسيقى مالي التي أسرت مسامعي الرقيقة فشغفت بها.
عندما زار “علي فركة” مدينة لينكولن لإقامة حفل موسيقي لمعجبيه في المدينة، كنت ضمن الزوار قبل الحفل مع إخوتي وزملائي من مالي. لا مراء، لقد زاد إعجابي ب “علي فركة” عند حضوري الحفل الحيٍ المشار إليه بمسرح “ليد سنتر” التابع لجامعة نبراسكا- لينكولن، وسط مدينة لينكولن العاصمة عام ١٩٨٩م. فأمام جمهورٍ كبير اكتظ به المسرح، أدَّى “على فركة” أغنياته أداءً جميلاً وباهراً تحدَّث عنه رواد الموسيقى الأفريقيَّة وجاز البلوز في المدينة لوقت طويل. وللحق نقول إنَّ “علي فركة” شكَّل حضوراً مميِّزاً بزيه القومي وطوله وجسمه القويم، لا السمين البدين، ولا النحيل الهزيل؛ وملاح وجهه الصبوح وتقاطيعه المستقيمة، وابتسامته المشرقة التي تبزر بريق أسنانه البيضاء عند تفاعله مع الجمهور الغفير حين يشير إليهم بإعجابه بهم. كان الرجل يوجه مجموعة العازفين ويتحرَّك جيئة وذهاباً محييَّاً محبيه بيده اليمني، وأصابع يده اليسرى تخلِّل أوتار جيتاره، دون النظر أو الالتفات إليها مظهراً مهارة العزف عليها بلا منازع ليرسل النشوة للجموع التي آثرت الرقص والطرب والصراخ الداوي بما فعلت بهم أنغام أوتار “علي فركة” الساحرة وهو يضربها بيد واحدة.
إنَّ الحديث عن “علي فركة” لكثير وقد يطول، ولكن نختصره في أنَّه كان الطفل الوحيد، من والدته الذي عاش بعد موت كل إخوته الذين يكبرونه، لذا لُقِّب ب “فركة” أي “حمار” لكي يبقى على قيد الحياة. كان ذلك تقليداً إفريقيَّاً عندما لا يعيش مواليد المرأة بالتتالي فيُعطي ما يليهم اسماً غريباً غير مألوف لديهم لطرد الشر المحدق بالأسرة. عاش “على فكة” وأصبح فناناً ماهراً مما أهَّله بمعايير ذلك الزمن ليقلِّد منصب أول وزير للفن والثقافة في دولة مالي بعد استقلالها من فرنسا لما قام به من جهود فرديَّة في تقدُّم الفن والثقافة في بلاده. ثم أنَّ علياً أصدر في مسيرته الفنيَّة العديد من التسجيلات والأغنيات كما نال جائزة الجرامي. كما طاف بلدان كثيرة في رحلات فنيَّة غنائيَّة ومن ألبوماته المشهورة كمثال فقط: “الوحش”، و”الحديث بلغة تمبكتو”؛ و”المصدر”، و”نيافونكي” (اسم مسقط رأسه)، “في قلب القمر”، و”راديو مالي” إلخ… لا نبالغ إذا قلنا إنَّنا نملك كل ألبوماته.
يلي تناولنا للفنانين الماليين الفنانة “أُومو سانغاري” وهي من الأصوات النسائيَّة التي تميًّز موسيقاها بالنمط الشعبي المستمد من المناطق الريفيَّة في منطقة “موصولو” بجنوب مالي، ويدور حول مناصرة حقوق المرأة الماليَّة هناك. ولا شك في أنَّ “أُومو” تأثَّرت في عمر مبكر بوالدتها التي كانت مغنية باهرة في ذلك الجزء القصي من مالي حيث كانت تقيم حفلات الزفاف والمعموديَّة بالنسبة للمسيحيين في المدينة. لم يمض وقتٌ طويل قبل أن تبدأ “أُومو” في الغناء بنفسها وأصبحت فنانة معترف بها محليَّاً.
قامت “أُومو” بجولة قصيرة إلى أوروبا مع فرقتها كمغنية رئيسيَّة، وبعد عودتها من تلك الجولة بدأت في كتابة الموسيقى لتسجيل ألبومها الأول “موصولو”. طوَّرت “أُومو” موسيقاها من قيثارة بستة أوتار بإضافة إليها الكمان لإعطائها محرِّك إيقاعي جيد، وجيتار كهربائي، وبيز جيتار لتوفير الدعم اللحني المتناسق. كما أضافت مجموعة من المطربات للتعبير عن غنائها الفردي القوي بنسخته الغرب إفريقيَّة. على كلٍ، تميَّزت كلمات ألبومها الأول الذي صُدر عام ١٩٩٠م بنقد حاد لموضوعات محظورة مثل تعدُّد الزوجات، والزواج المرتَّب، ومشقة النساء في مجتمع غرب إفريقيا، ولاقى استجابة عالية فوزُعت منه محليَّاً حوالي ٢٥٠٠٠٠ نسخة وسرعان ما تم اختياره للتوزيع الدولي. توالت إصدارات “أُومو سانغاري” لتشمل العديد من التسجيلات منها “تمبكتو”، “موقويا”، “ووروتان”، وأومو”. ومن الأغنيات الشهيرة التي استمع لها: “ديارابي نيني”، و”كيايني وورا”. بالإضافة لتناول “أُومو” للقضايا الاجتماعيَّة وقضية المرأة بصفة خاصة، فقد عملت مع وكالات إنسانيَّة مختلفة، بما في ذلك منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة، وعملت سفيرة رسمية لها. أما “أمي كويتا” من المغنيات الماليات اللائي تأثَّرنا بهن باكراً وما زلنا نستمتع بأغانيها، وهي بلا شك رمز من رموز الفن في مالي ورقم لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال.