أزمة السودان المتجددة: تردد النخب السياسية بين الحفاظ على الامتيازات ومواجهة جذور الأزمة
بقلم : خالد كودي
القاهرة، 17 أغسطس 2024
تُعد الأزمة السودانية واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في المنطقة، إذ تتقاطع فيها القضايا العرقية، الدينية، الاقتصادية، والسياسية. على الرغم من سقوط نظام عمر البشير في أبريل 2019، إلا أن الجذور العميقة للأزمة ما زالت قائمة ولم تتم معالجتها بشكل جذري. فالقضية الأهم التي تقف في قلب هذه الأزمة هي العلاقة المتوترة بين الدين والدولة، وتقاطعاتها مع ارث العبودية وتداعياتها من التمييز العرقي والاجتماعي الذي تجذر في هيكلة الدولة السودانية، ورغم الانقسامات الأيديولوجية بين قوى اليمين واليسار، إلا أن هناك توافقًا ضمنيًا بينهما على تجنب مواجهة هذه القضايا بشكل مباشر، مما يظهر في الاعتماد على الحيل السياسية بدلاً من التغييرات الحقيقية.
حقائق تاريخية:
منذ استقلال السودان في عام 1956، هيمنت نخب الشمال النيلي، على السلطة والثروة دون تقديم مشروع وطني شامل يتناسب مع التحديات التي تواجهها البلاد. أدى هذا الإخفاق إلى تهميش مناطق بأكملها، مثل جنوب السودان، دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق وشرق السودان وأقصي شماله بدرجات وانماط مختلفة. التهميش الاسواء والمركب استند إلى أسس عرقية ودينية، مما أشعل سلسلة من الحروب الأهلية، بدءًا بالحرب الأهلية الأولى في الجنوب (1955-1972) والحرب الأهلية الثانية (1983-2005)، والتي انتهت بانفصال جنوب السودان في عام 2011خلال هذه الحروب، استخدمت النخب الحاكمة ( المسلمة ) كأداة للسيطرة السياسية وبناء الامتيازات، مما عمق الانقسامات الداخلية. ففي عهد الرئيس جعفر نميري، تم إعلان قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر عام 1983، وهو ما زاد من تعقيد العلاقة بين الدين والدولة وأسهم في إشعال الحرب الأهلية الثانية. هذا النهج استمر خلال فترة حكم عمر البشير، حيث أصبحت الشريعة الإسلامية جزءًا أساسيًا من هوية الدولة السودانية، مما أدى إلى تفاقم استبعاد المواطنين بناء على اعراقهم وديانتهم.
الاتفاق الضمني بين اليمين واليسار حول علاقة الدين والدولة:
على الرغم من الفروقات الأيديولوجية بين اليمين الإسلامي واليسار السوداني، إلا أن هناك توافقًا ضمنيًا على تجنب طرح قضية العلاقة بين الدين والدولة بشكل مباشر وحاسم. اليمين يدافع عن الشريعة الإسلامية كجزء من هوية الدولة، بينما يتجنب اليسار الدخول في صدام مع القوى الإسلامية خوفًا من فقدان التأييد الشعبي.هذا التوافق يتجسد في استخدام مصطلحات غامضة مثل “الدولة المدنية”، التي تُطرح كبديل عن العلمانية، دون أن تقدم فصلاً واضحًا بين الدين والدولة. هذه الاستراتيجية تهدف إلى التحايل على القوى الإسلامية وتجنب المواجهة الحقيقية لمسألة العلمانية.
الامتيازات والعنصرية الكامنة:
إن هذا التوافق الضمني بين اليمين واليسار حول رفض العلمانية يعكس حقيقة أعمق تتعلق بالعنصرية والامتيازات التي استفادت منها النخب الحاكمة على مدى عقود. فمنذ الاستقلال، استخدمت هذه النخب الدين كأداة للسيطرة السياسية والاقتصادية، مما أدى إلى استبعاد بعض المواطنين من مؤسسات الدولة، فالعلاقة بين الدين والدولة ليست مجرد مسألة أيديولوجية او اختلافات رؤي في السودان، بل هي جزء من نظام الامتيازات الذي يسمح لنخب السمال والوسط النيلي من المسلمين بالاستمرار في السيطرة على السلطة والثروة. أي محاولة لفصل الدين عن الدولة تعتبر تهديدًا لهذا النظام، ولهذا السبب تتجنب القوى السياسية مواجهة هذه القضية بشكل جدي، هذه النخب السياسية السودانية لا تعتقد ان غيرهم يستحق نفس الحقوق التي توارثوها.
الشراكة بين القوى السياسية والقوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع:
بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019، بدلاً من تبني مواقف ثورية تعيد النظر في هيكلية الدولة السودانية وتواجه المظالم المتجذرة، دخلت القوى السياسية في شراكة مع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. هذه الشراكة كانت جزءًا من “الوثيقة الدستورية” التي وُقعت في أغسطس 2019، والتي نصت على تشكيل حكومة انتقالية تضم قوى الحرية والتغيير (التحالف المدنية الذي تصدرت المشهد) والمجلس العسكري الانتقالي (اللجنة الأمنية للنظام الذي قامت ضده الثورة!)
الخلفية التاريخية للدعم السريع والقوات المسلحة السودانية:
تعود جذور قوات الدعم السريع إلى مليشيات الجنجويد التي كانت نشطة في دارفور خلال الصراع الذي اندلع في عام 2003. وقد تم تأسيس هذه القوات رسميًا بمرسوم من الرئيس البشير في 2013 كجزء من استراتيجيته لقتال ثوار وقمع ثورة الهامش ولتعزيز سلطته في الشمال. تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تحولت قوات الدعم السريع إلى قوة عسكرية واقتصادية كاسحة، وتورطت في انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في دارفور وأماكن أخرى في السودان.
أما القوات المسلحة السودانية، فقد كانت دائمًا اللاعب الرئيسي في السياسة السودانية منذ الاستقلال. قادت هذه القوات عدة انقلابات عسكرية وسعت إلى الحفاظ على سلطتها من خلال التحالفات مع القوى السياسية والعسكرية، وبدورها ارتكبت انتهاكات واسعه في الجنوب، جنوب كردفان، النيل الأزرق ودارفور. والمثير من هذه الانتهاكات ارتكبت والكيانين يقاتلا جنبا الي جنب.
الشراكة السياسية بعد سقوط البشير:
بدلاً من تبني مواقف ثورية، اتخذت القوى السياسية الشمالية نهجًا يعزز المصالح الضيقة ويضمن استمرار نفوذها في السلطة. الشراكة مع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لم تكن تهدف إلى إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، بل إلى الحفاظ على توازن القوى الذي يخدم مصالح النخب السياسية والعسكرية على حد سواء ويحافظ على مراكز القوي والتراتيبية الاجتماعية المتوارثة.
الهروب من الاعتراف بالحلفاء الحقيقين للثورة، وتزوير طبيعة التغيير:
الثورة السودانية كانت تسعى إلى تحقيق تغييرات جذرية في بنية الدولة، وفي السودان، كانت تهدف إلى تفكيك الدولة العنصرية القائمة على أسس التمييز العرقي والديني والجغرافي. ومع ذلك، ما حدث فعليًا بعد سقوط نظام عمر البشير كان تحويرًا وتسويفًا لطموحات الثورة من قِبل القوى السياسية التي تصدرت المشهد. بدلًا من السعي لتحقيق التغيير الجذري الذي كان يتطلع إليه الشعب السوداني، وجهت هذه القوى مسار الثورة نحو تحقيق مصالحها الضيقة.
أحد أبرز مظاهر هذا التحوير هو الهروب من الاعتراف بالحلفاء الحقيقيين للثورة، مثل الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان-شمال، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، بالإضافة إلى القوى المدنية والشبابية الثورية. كانت هذه القوى الثورية تمثل الفئات المهمشة والمضطهدة التي تعرضت للاضطهاد لعقود، وكانت دائمًا تطالب بإصلاحات جذرية تشمل تفكيك منظومة التمييز العنصري والهيمنة الثقافية والاقتصادية التي مارستها النخب المسيطرة على السلطة. ومع ذلك، تم تجاهل هذه القوى بشكل متعمد من قبل القوى السياسية الشمالية المسلمة التي فضلت التمسك بالهيمنة التاريخية على حساب مواجهة القضايا الحقيقية للبلاد.
لقد قامت النخب السياسية في السودان بتزوير سردية الثورة التي أسقطت نظام عمر البشير، محورة طبيعتها وملغية دور الثورة المسلحة التي كانت أساسًا حاسمًا في التغيير. هذه الثورة، بقيادة الحركة الشعبية وغيرها من الفصائل المسلحة، استنزفت النظام الفاشي وأجبرته على تخصيص أكثر من 70٪ من الدخل القومي للمجهود الحربي والأمني، مما أدى إلى تدهور اقتصادي هائل في المناطق التي كانت تحت سيطرة الحكومة. هذا التدهور هو ما دفع المواطنين في تلك المناطق للانتفاض ضد النظام. ورغم ذلك، تم الترويج لرواية مزورة تفيد بأن التغيير انطلق وانتهى في الخرطوم والمدن الشمالية، متجاهلين تمامًا الدور الحيوي للثورة المسلحة في إسقاط النظام. هذه السردية المزيفة تعمدت تهميش الثورة المسلحة وتقديمها على أنها حركة هامشية، بينما في الحقيقة كانت هي التي وضعت النظام في موقفه الضعيف وأشعلت فتيل الانتفاضات في العاصمة والمدن الكبرى.
الحرب بين الجيش والدعم السريع: صراع على السلطة لا على المبادئ:
لفهم الحرب الجارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يجب النظر إلى حقيقة النزاع وهو صراع بين فصيلين يتشاركان في العديد من الجوانب الفكرية والتكتيكية. تلك الفصائل لم تكن في السابق متنافسة، بل كانت شريكة في تنفيذ أجندة مشتركة تهدف إلى قمع الشعب السوداني والحفاظ على الهيمنة السياسية. خلال سنوات حكم البشير، كان الجيش وقوات الدعم السريع أدوات رئيسية في قمع الثورة السودانية في الهامش، واشتركا في استهداف المواطنين السلميين الذين طالبوا بإصلاحات اقتصادية وديمقراطية في مناطق سيطرة نظام البشير.
النزاع الحالي بين الجيش وقوات الدعم السريع لا ينبع من اختلافات جوهرية في الرؤى الوطنية أو السياسية. بل هو نزاع حول السيطرة على مقاليد السلطة وكيفية تقسيم الثروات التي استحوذوا عليها بطرق غير مشروعة خلال سنوات من الفساد والقمع. هذا الصراع يمثل استمرارًا لنفس النهج الذي اتبعه النظام في السودان لعقود طويلة، حيث كانت القوة والعنف أدوات أساسية للحفاظ على العنصرية والسيطرة واستغلال الموارد الوطنية لصالح النخب الحاكمة.
استمرار النهج القديم في صراع جديد:
ما يحدث الآن بين الجيش وقوات الدعم السريع ليس سوى فصل جديد من نفس السيناريو القديم. القوى التي تصدرت المشهد السياسي بعد سقوط البشير لم تكن معنية بتحقيق التغيير الحقيقي الذي يطمح إليه الشعب، بل كانت تسعى إلى الحفاظ على مصالحها الضيقة، سواء من خلال استخدام القوة أو المفاوضات السياسية التي تخدم النخب التقليدية. الصراع الدائر اليوم هو انعكاس واضح لاستمرار هذا النهج، حيث يتم استخدام الموارد الوطنية ومقدرات البلاد كأدوات في صراع على السلطة بين قوى عسكرية ومدنية لا تزال بعيدة عن طموحات الشعب السوداني.
استمرارية السيطرة على السلطة:
رغم الحقائق التاريخية الواضحة، تواصل القوى السياسية الشمالية النيليّة والمتواطئون معها التمسك بفكرة “إصلاح” القوات المسلحة السودانية، على أن تقوم هذه المؤسسة بإصلاح نفسها من الداخل، بدلاً من اتخاذ خطوة جذرية نحو تفكيكها وبناء جيش وطني جديد يقوم على عقيدة قتالية ترتكز على الولاء للوطن والمواطنة، وتعكس التعدد وقيم المساواة والعدالة. التوجه الحالي يكشف رغبة هذه النخب في الحفاظ على سيطرتها التاريخية على الجيش بنفس تركيبته واستخدامه كأداة لحماية مصالحها الاستراتيجية. بدلاً من تبني رؤية شاملة لبناء جيش جديد، تدفع هذه النخب نحو دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، متجاهلين عمداً قوى المقاومة المسلحة التي لم تتلطخ أيدي جنودها بدماء المواطنين، والتي كان من المفترض أن تكون حليفاً استراتيجياً لتغيير ثوري. قوي الكفاح المسلح الثورية تمثل مشروعاً ذا جذور تقوم على رؤية لسودان جديد علماني ديمقراطي لا مركزي موحد يحكم مدنياً. هذا المشروع يتطلب إعادة ترتيب السلطة والثروة في السودان، وهو ما يهدد المصالح التي لم تقم على مبدأ المواطنة المتساوية والإنصاف، ولذلك تتجنبه هذه النخب وتعد لنوبة من الفشل الأكيد.
تاريخيًا، بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية مثل النازية والفاشية، تم تفكيك الجيوش التي نفذت أوامر تلك الأنظمة، وتم تأسيس جيوش جديدة تعتمد على العقيدة الوطنية والولاء للمواطنين، وليس للأنظمة المستبدة. في السودان، لا يزال الجيش الشعبي الثوري، الذي يمثل مصالح الفئات المهمشة، خارج حسابات القوى السياسية، مما يعزز استمرارية الهيمنة التي عانى منها الشعب لعقود
ختامًا:
رغم الدمار الشامل الناتج عن الحروب المتكررة، والآثار المأساوية التي خلفتها من لجؤ ونزوح ومجاعات يعاني منها الملايين اليوم، لا تزال العمليات السياسية الراهنة والإعداد لما بعد الحرب تتجاهل جذور الأزمة السودانية. القوى السياسية والنخب التي تتمسك بالامتيازات التاريخية تواصل تجاهل قضايا المواطنة المتساوية والكرامة لكل السودانيين، متجنبة تبني نظام علماني ديمقراطي يحترم حقوق الجميع. هذا الإصرار على الحفاظ على الامتيازات القديمة، دون مواجهة حقيقية للقضايا الأساسية مثل المساواة والعدالة الاجتماعية، يهدد بإطالة أمد الحروب، وتعميق التفكك الاجتماعي والإنساني في البلاد.
الثورة السودانية التي انطلقت في ديسمبر 2018 بهدف إحداث تغييرات جذرية في بنية الدولة والمجتمع، تعرضت لتحوير وتسويف من قِبل القوى السياسية والنخب التقليدية. رغم شعارات الثورة التي رفعت قيم الحرية والسلام والعدالة، لم تجد هذه الشعارات طريقها نحو تحقيق العدالة الحقيقية والمساواة بسبب تردد القوى المهيمنة في مواجهة القضايا الجوهرية مثل فصل الدين عن الدولة، وإعادة هيكلة السلطة بشكل شامل وعادل.
بدلاً من العمل مع بالحلفاء الحقيقيين للثورة، مثل الحركة الشعبية والجيش الشعبي، وحركة وجيش تحرير السودان والقوي الشبابية والفئوية الثورية والسعي نحو إصلاحات جذرية تفكك بنية الدولة العنصرية وتضمن حقوق الفئات المهمشة، أعادت هذه النخب ترتيب الأوضاع بما يخدم مصالحها الضيقة. النخب، سواء من اليمين أو اليسار، تتجنب تبني العلمانية كخيار استراتيجي، مفضلة الحفاظ على الوضع القائم الذي يضمن لها استمرار الامتيازات التي تراكمت عبر عقود من التمييز والهيمنة.
وفي ظل استمرار هذه الديناميكيات، فإن الأزمة السودانية لن تجد طريقها للحل إلا إذا تم التعامل بشجاعة وإرادة سياسية حقيقية مع القضايا الجوهرية التي تعيد الاعتبار للمواطنة المتساوية والعدالة لكل السودانيين، بعيدًا عن التسويف والتهرب من مواجهة هذه التحديات المصيرية.