(أحمد محمود أحمد) ومحاولات التنظير والدفاع عن السودان القديم.
✍️ عادل شالوكا
طالعنا عبر الأسافير مقالاً منشوراً بصحيفة الهدف للمدعو (أحمد محمد محمود) تحت عنوان: (الهوية السودانية: تفكيك نظرية المركز والهامش ونقد مفهوم دولة “56”). وهي بالطبع دولة (السودان القديم). لم يخرج أحمد محمود من صندوق تفكير (الحرس الآيديولوجي) من منظري المركز – هذا التفكير الذي لا يمت لطبيعة الصراع في السودان بصلة، ولكنه أثبت إن طرائق تفكيرهم لن تتغيَّر، إذ يسعون بكل ما يملكون من جهد للحفاظ على إمتيازاتهم غير المشروعة للسيطرة على البلاد بالتنظير الفطير والتبرير الواهي وعدم الواقعية وضعف الحجة والمنطق.
لقد سقط أحمد محمود أحمد في إمتحان الوطنية والنزاهة الفكرية. وتجرأ بنقد نظرية (المركز – والهامش) بالقفز على حقائق الصراع السوداني وأطرافه واللجوء لتلفيق أطروحة ترمي بأسباب الصراع الوطني على أوربا الإستعمارية، ليعفي النخب التي حكمت 68 عاماً من أي مسؤولية عن الحرب الأهلية التي دارت في البلاد بعد خروج المستعمر. ولجأ لتبسيط الصراع على أنه صراع متمحور حول التنمية، وإن تركيز التنمية في الشمال والوسط النيلي كان مسؤولية الاستعمار. ولا يريد أن يحمِّل النخب السودانية مسؤولية التمسك بالسياسة الإستعمارية لمدة 68 عاما بعد ذهاب المستعمر. أراد نفي أي صلة لعوامل العرق والإثنية واللغة والدينوالثقافة واللون بالصراع الدائر منذ العام 1956.
أثبت أحمد محمود ضعف التنظير وهشاشة الحجة والإنحياز الكامل للمركز وإنتمائه لفئة (الجلابة) وعدم الرغبة في مخاطبة جذور الأزمة – كعادة نخب المركز – بل اتجه لخلط الأوراق عندما حاول المقارنة بين ما يجري في جنوب السودان بعد إستقلاله وما جرى ويجري في الدولة الأم، أو السودان القديم. وشتان بين هذا وذاك. ويقول إنه في إنتظار منظري مدرسة (المركز – والهامش) ليوضحوا كيف يمكن بناء السودان الجديد.
الفكرة الأساسية لمقال (محمود) هو نسف نظرية (المركز – الهامش)، ويريد أن يؤكِّد إنه بقيام حرب 15 إبريل إنتفت النظرية، بحجة إن البعض ممن حملوا السلاح من أبناء الهامش وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف يقاتلون إلى جانب القوات المسلحة. وهي حجة واهية ولا تقف على ساقين.
ولن يخبرنا (محمود) بالطبع لماذا إرتبط الكفاح المسلح في السودان ضد الحكومات (المركزية) منذ خروج المستعمر دوماً بأقاليم (الهامش)؟ – وهل قتال هؤلاء مع القوات المسلحة يلغي التمايز والفروقات؟.
أحمد محمود يحاول أن يُنصِّب نفسه كأحد منظري السودان القديم – ونحن نرد عليه على النحو التالي:
التَّهْمِيش كمفهوم يُشكِّل قضية محورية في الصراع السُّوداني، ولأن المفهوم تعرَّض في الآونة الأخيرة إلى الكثير من المُغالطات النظرية والفلسفية، إذ يرَى الكثيرون ضرورة إعادة تعريف مفهوم التَّهميش، بإعتبار إنه قد إتَّخذ منحىً مُنحرفاً عن مسارِه، وإن (الشعب السُّوداني كله مُهمَّش)، وإنه يجب عدم ربط المفهوم بمناطق جغرافية أو مجموعات إثنية بعينها على حد زعم البعض، وغيرها من النقاشات التي دارت وتدور بإستمرار، فمن الضرورة مناقشة هذه القضية الإستراتيجية كمدخل لتناول قضايا (المركز – والهامش) لإزالة اللَّبس عن المفهوم، وتعريفه بصورة واضحة تُساعد الجميع على فهم طبيعة الصراع في السُّودان وجذوره التاريخية.
مفهوم التَّهميش :
ورَد في قاموس المعاني (معجم عربي..عربي) معنى كلمة “هامش -Margin ” ومصدرها (هَمَّشَ)، على النحو التالي :
1/ “عَلَى هَامِشِ الدَّفْتَرِ” : عَلَى حَاشِيَتِهِ.
2/ “يَعِيشُ عَلَى هَامِشِ الْمُجْتَمَعِ” : خَارِجَ سِيَاقِ الْمُجْتَمَعِ.
3/ “تهْمِيشَ –Marginalize ” : جَعْلَهُ عَلَى الهَامِشِ، أيْ عَدَمَ إعْطَائِهِ أهَمِّيَّةً.
وللتهميش أربعة أبعاد على النحو التالي:
(أ) – تمييز وإقصاء إجتماعي :
وقد عرَّف الدكتور/ أليين تودمان مدير معهد دراسات علم النفس المُتخصِّص في أدلير، مفهوم “التَّهمِيش” على النحو التالي : (جملة الإجراءات والخطوات المُنظَّمة التي على أساسها تُوضع الموانع أمام الأفراد والجماعات، حتى لا يتحصَّلوا على الحقوق، والفُرص، والموارد، وخدمات السكن / الصحة / التوظيف / التعليم / المشاركة السِّياسية، وغيرها من الحقوق المُتاحة للمجموعات الأخرى، والتي هي أساس التكامل الإجتماعي).
(ب)- إستبعاد عن المشاركة :
وفي إطار محاولة التفرقة بين مفهومي “التَّهمِيش” و”الإستبعاد”، أكَّدت الباحثة د/ مي مُجيب عبد المنعم، أن مفهوم التهميش هو مفهوم أوسع من الإستبعاد، حيث عرَّفت الباحثة “التَّهمِيش” بأنه : (عملية الإستبعاد من المشاركة الفعَّالة في المُجتمع، وتمييز ضد بعض الأفراد أو الجماعات في المجالات السِّياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية، مما يُؤثِّر في وضع هؤلاء الأفراد والجماعات داخل هيكل القوة المجتمعية).
وهذا التعريف أكثر دقة ويُمكن أن يُعبر عن الحالة السُّودانية بوضوح إذا تمت قراءته مع بقية التعريفات الأخرى.
(ج)- حدود وفواصل :
ويُعرِّف الدكتور/ حبيب العايب ، الباحث التونسيّ في مجال الجغرافيا الإجتماعيّة والسّياسيّة، ويعمل بمركز الدِّراسات الإجتماعيّة بالجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، المفهوم، بقوله :
هناك تعريفات أساسيّة مُتّفقٌ عليها، وهي تكاد تكون تعريفات لغويّة معجميّة، ويطرح سؤالاً : أين يوجد الهامش؟ ويُجيب : يوجد خارج المركز، فمقابل الهامش هناك المركز، ففكرة الهامش بلا “مركز” لا معنى لها، أي أنّ المُهمَّش لا يمكن أن يكون مهمّشاً في حدّ ذاته، بل بالنّسبة إلى حالة أو وضع مركزيّ، ويُضيف : (يمكن أن نتحدّث عن قرية أو منطقة أو بلد مهمّش مثلاً، ويُمكن أن نتحدّث عن فئات مُهمّشة في مكان مُحدّد، وتهميش المكان قد يرتبط بتهميش فئات إجتماعيّة مُحدَّدَة).
ويرَى العايب، أن هناك أربعة حدود فاصلة بين “المُهمَّش” وغير “المُهمَّش” :
1/ الحد الأول : حدّ فاصل جغرافيّ مكانيّ.
2/ الحد الثاني : حدّ فاصل آخر يُعرّف معياريّاً، إذا قرَّر المجتمع معايير مُعيَّنة، فإنّ كل من لا يُطبُّقها يوصمون- Stigmatization بأنّ ممارساتهم غير عاديّة، مثلاً : (الذين لا يتحدَّثون العربية ولا يدينون بالإسلام في الحالة السودانية).
3/ الحدّ الثالث: ويرتبط بالأصل، الأصل الفضائي أو القبلي أو الدِّيني أو الإثني .. والمثال الأكثر شُهرة هو حالة “المنبوذين” في الهند، هذه الهامشيّة لا تتعلّق في حدّ ذاتها بالفقر أو الغني، لكنّها قد تكون مُنتجة ومُؤدية لفقر جماعي.
4/ الحدّ الفاصل الرّابع : هو التَّهميش على أساس إجتماعي إقتصادي. وهذا الحدّ مرتبط مباشرة بوصول أو عدم وصول الأفراد أو المجموعات إلى الموارد الاقتصاديَّة، وهنا تظهر فئات العاطلين عن العمل، وكلّ من لا يصلون إلى الموارد (التَّعليم / الصَّحّة / السَّكن، والأرض للفلاَّحين / ومياه الشُّرب .. إلخ)، وهذه هي الفئة الهامشيّة الوحيدة التي يُمكن إخضاعها إلى مقولة الكمّ وقياسها، مع هامش خطأ محدود نسبيّاً.
الوصمة “Stigma” في الثقافة السودانية :
الوصمة هي أول صيغة من صيَّغ الإقصاء والتَّهميش الاجتماعي في السودان كونها تنبع من حُكم القيمة المُسلط على “المُهمَّشين” في إطار نظام “الإستعدادات والتصوُّرات – Habitus” التي ترسخت في أذهان السودانيين بالسياسات المُمنهجة التي إتبعتها النُخب المركزية عبر أجهزة الإعلام والتعليم بسيطرتها على السلطة وجهاز الدولة فتشكَّلت كيانات إجتماعية تمارس الإستعلاء على الآخرين، وفئات أخرى تشعر بالدونية.
وتعتبر مسألة الهوية في السُّودان هي القضية المحورية في صراع المناطق “المُهمَّشة” ضد “مركز” السلطة في الخرطوم لكون الأمر يتعلَّق بـ”شعور جمعي” إزاء الآخر يختلط بـالشعور بـ”الذات الجمعية”. وهي قضية قديمة مُتجدِّدة تعود بجذورها إلى عصر مؤسَّسة الرِّق في السُّودان. تلك الحقبة التي خلَّفت وراءها غُبن ومرارات للبعض و (رأس مال رمزي – Symbolic Capital) للآخرين ليتميَّزوا به على غيرهم من الشعوب التي تعرضَّت للإسترقاق.
وجوهر قضية الهويَّة في السُّودان يكمُن في دورها في تشكيل عدم المساواة الهيكلية (Structural Inequality) بين مُكوِّنات المجتمع، و بالتالي فإن إشكال الهويَّة في السُّودان يتلخَّص في أن هناك جماعة من الجماعات ألبست الدولة هويِّتها “المُفترضة” الخاصة، وظلَّت تفرضها علي الكل، أي تم إختزال هويَّة الدولة في هويَّة هذه الجماعة وفي نفس الوقت تعميم هويَّة هذه الجماعة على الدولة عبر “جدلية الإختزال والتعميم”، وتُعتبر “جدلية الإختزال والتعميم” هي مُرتكز إشكال الهويَّة في السُّودان، حيث أنه بعد أن تم إختزال هويَّة الدولة في الجماعة المُسيطرة (Dominant) وتم تعميمها علي الجماعات الأخري المًسيّطر عليها (Sub-ordinate) وذلك عبر الإختزال (الأثنو- ثقافي – Ethno-Cultural) والذي أدَّي إلي خلق نظام الإمتيازات المعهود في الدولة السُّودانية، وأصبحت هناك ثقافة سائدة أدت الي وجود أيديولوجيا سائدة تسعى لتبرير، والمحافظة على هذه الإمتيازات ( د/ أبكر آدم إسماعيل – جدلية المركز والهامش – 1997).
ويقول الدكتور/ محمد سليمان محمد، واصفاً مُحاولة النُخب السودانية بإستمرار فرض هويَّة أحادية إقصائية على السُّودانيين :
(يأتي معظم أفراد الصفوة الشمالية المُسيطرة على الدولة والسوق، من رجال المجموعات العربية و”المستعربة” المُسلمة المُستقرة وسط السودان على ضفاف النيل “شايقية، دناقلة، جعليين، نوبيين. … ألخ”. ولإحكام سيطرتها الإقتصادية والسياسية سعت هذه الصفوة إلى فرض هويتها العربية – الإسلامية على بقية أهل السودان، الإسلاموعروبية هي آيديولوجية مؤسَّسة الجلابة، ونشرها جزء لا يتجزَّأ من عملية الهيّمنة على البلاد، مواردها وأهلها. هذه الآيديولوجيا تبُرِّر معاملة غير “العرب” وغير المسلمين كمواطنين من الدرجة الثانية، وتُبيح للصَّفوة من مؤسَّسة الجلابة إستلاب أرضهم ومواردهم بما عليها، وتُبرِّر “حق” هذه الصَّفوة في إستغلال قدرة عملهم بأثمان بخسة. إن الهجمتين على الموارد والهوية وسيلتان للهيّمنة التامة على كل السُّودان موارداً وبشراً) – (محمد سليمان – حروب الموارد والهوية 2000).
ومن أبرز مشكلات السُّودان ما بعد الإستعمار إلى يومنا هذا، هي فشل الصفوة والسَّاسة – ممن توالوا على حكم السُّودان – في إيجاد مُعادلة سياسيَّة وإقتصادية وثقافية لتأسيس دولة سودانية مُستقرة. دولة حديثة تنتمي إليها كل شعوب السُّودان المتعدِّدة في إثنياتها وثقافاتها ودياناتها ولغاتها وسُبل كسب عيشها. ولكن الذي يتعمَّق ويُمعِن النظر بعينٍ ناقدة في هذا الفشل الذي لازم السُّودانيين ما يفوق الستين سنة بعد خروج المستعمر، يصل إلى قناعة بأن الأمر ليس فشلاً سياسيَّاً بقدر ما هو منهج سياسي وإقتصادي وثقافي مُتكامل ومقصود، مصدره عقلية مركزية إقصائية لا تؤمن بإدارة التنوُّع كمصدر قوة وثراء. فمثلاً عملية تغييب تأريخ السودان القديم من المُساهمة في مُكوِّنات الهوية (السُّودانوية) وفي المناهج التعليمية وفي التربية الوطنية والسِّياسية، لا يمكن أن يكون نتيجة غفلة أو فشل سياسي. وقِس على ذلك.
هذه السياسات العنصرية والعقلية الخربة – هو ما يحاول (أحمد محمود) الدفاع عنه والتبرير له عبر التنظير ومحاولة تصوير المشكلة السودانية بإنها عبارة عن مجرد إشكالات تنموية فشلت فيها الحكومات. وأمثال (محمود) ممن ينظرون للسودان القديم هم أزمة البلاد الرئيسية.
أخيراً: أنت تنتظر منظِّري (المركز – والهامش) ليخبروك كيف سيتم بناء السودان الجديد – وأنا أقول لك إن السودان الجديد سيتم تحقيقه عندما نُدمِّر ونتخلَّص من العقليات التي تنتج وتروِّج لمثل أفكارك. حينها يمكن بناء وطن يسع الجميع أهم مرتكزاته: الحرية والعدالة والمساواة. دولة علمانية ديمقراطية لامركزية بجيش مهني واحد يُعبِّر عن جميع السودانيين، مُهمَّتِه حماية الدستور والحدود السودانية. وبعدها يتم إبرام عقد إجتماعي بين جميع مُكوِّنات الشعوب السودانية. ووضع الدستور الدائم للبلاد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.